"حدوتة الشط البعيد"
ديوان ل/محمود رمضان_ مصر
قراءة نقدية:
حامد حبيب_ مصر
¶| مؤتمر
"ملتقى النقد الأدبي العالمي"¶|
_ اليوم الثاني (٢٢ يناير ٢٠٢٣م)
—--------------------
الذكريات ُ جراحٌ غائرةٌ ،
والنَّبشُ في الذكرياتِ
جدُّ مُوجِع ، وعلي
وترِ الذكرياتِ يشدو ( محمود
رمضان) ، ومن مدادِ الذكريات يكتب حدوتة"الشط البعيد".
………..
ولا يحتاج
(محمود رمضان) حين يكتب إلي تكلُّف في
الكتابة ، أو معاناة ، لأنه يكتب بتلقائية
وبساطة حين يترجم حواسه إلي لُغةِ الشِّعر ، ولاينفي ذلك أنَّ الشعرَ ذاتَه إنما
يُعبِّرُ عن أزمة نفسيَّة أووجدانيَّة
وإنسانيٌة ، وأنّه تجربة ٌ ذاتية ٌ في المقام
الأوّل.
والتجربةُ
الشعريَّةُ لدى الشاعرِ تعكسُ بالتجسيدِ كلَّ
آلامِه
وأحلامِه في وضوح، عبّر عنها بتلقائيةٍ وبساطةٍ تُمكِّن القارئ من الولوجِ في
عالَمِه والانفعالِ به ومعه.
……..
فى البدء،
وعند الاهداءِ نتوقّف ..كلمات تنضحُ بمعنيً عميقٍ ، تؤكِّد إلي أيٌ مديً ارتباطه
الوثيق
بالماضى
مُجسَّداً في تلك الأرواحِ الطَّيِّبة التي غادرتنا ، ولكنها لاتزالُ تُحيطُ به
وتلتصق بوجدانِه، وكأنها لاتزالُ حيّةً يقطفُ منها أزاهيرَ الحياة،حين يقول:"
قالوا قد غادرَتِ الأرواحُ
الطَّيِّبةُوتركَتنا
، لكنّها ماتزالُ معي أراها..
أُحدِّثها..تحيا
معي…"
ربما هذا
الاهداء هو مايُمثِّلُ المدخَلَ الحقيقيّ للديوان ،لأنه يطرقُ باب الذكريات بقوّة
،ليستخرج
حواديت الشط
البعيد،حتي العنوان يحملُ دلالات قويّة في ذاتِ المعنَى.
……….
ولقد لخّصَ
الشاعرُ رسالتَه ورسالة َ الشعراءِ علي العموم ،ومعاناتهم الحقيقية ،في قولِه:
نكتب عن الناس اللّى قاعدة واللّى ماشية
واللّى
جايّة واللّى رايحة
نكتب عن الزمن اللي فات
وساعات بنكتب نفسنا
ونفضّى حُزن ف قلبنا
ونطير بعيد لخيال عنيد
حالِف يصحّى الذكريات
شكلنا
شكل الحارات
أو شكل دكان في الزقاق
بيبيع بواقي الذكريات
وفي
قصيدته"ع الرفوف":
وبقينا
قاعدين ع الرفوف
حروف
بتسندها الحروف
وكتير قصايد
وروايات
قصص ومليانة
حكايات
_ نجده وقد حلّق في القصيدة حول معاني :
(قصص/حكايات/الزمن
اللي فات/الذكريات)
واستخدامه
كثيراً للفعل الماضي تأكيداً الارتباط به
وأنَّه لإيجد
حياتَه إلاّ في هذا الماضي وحواديته..
فنجد صيَغ
الفعل في الماضي في الديوان كثيرة:
(أنا
كنت/شوقتني/وقفت/الحب كان/الحب سافر/
انطفا ضيّ
القمر/اختفي نور القمر/غاب المطر/
كنت
دائماً/فكّرتمي بشمس/فكّرتمي بمركبة/كنتوا بتبنوا/ كنت تقوم..).
…………
يتوغّل في
حواديته مسافراً عبر الماضي في قصيدته "قَعر الأيام":
أنا كنت
ساعتها بشوف مشهد م الماضي
شوفتني وسط
صحابي وانا لسّه صغيّر
…..
وادي اللي
اترسّب من مشاويرى وأحلامي
ف قعر الأيام
وفي"لوحة
غياب"
وقفت قلوب
الخلق
تعلن رحيل
الحب وغياب المطر
تسوي إيه
دنيا الحياة
لو النهار
مافيهوش ضياء
والليل آتي
من غير قمر
والشوارع ….
والحارات….
والبيوت
بيسكنها الخَلا
من غير بشر
…..
الحب كان زي
الملاك
بيهلّ نوره ع
المشاعر
تخرج البسمة
اللي دبلت في العيون
….
لكن خلاص
الحب سافر
وانطفا ضيّ
القمر
….
كل القلوب
وقفت بتصرخ
والخريف أكل
الشجر
اختفي نور
القمر
غاب المطر
_هذه
المتقابلة التي ساقها الشاعر بين روعة الماضي ومرارة الحاضر جسّدت المعاناة
الحقيقية
(الحب كان زي
الملاك/بيهل نوره ع المشاعر….
لكن خلاص
الحب سافر/وانطفا ضيّ القمر)
هي_بالفعل_ قمة
المأساة ، فالذكريات بستانٌ عامرٌ
بالمحبّة ،
تعكس روعة أيام الماضي،في مقابل حاضر غارق في مرارة الجفوة والكراهية..عطاءٌ في
الماضي..حرمان في الحاضر..هذه معاناة الشاعر الحقيقية ،ويشترك معه القارئ في تلك
المعاناة.
وفي"هاميس":
تبدو عيون
الحسرة والأسي علي ماآلت إليه البلاد
الآن، من
خلال"هاميس/عروس النيل":
هاميس …
أنا اللي جاي
لِك من الزمن البعيد
واللي ماشاف
في يوم صباكي
أنا الوحيد
اللي نام في عيونك الغرقانة باكي
جاي لِك
مخبّى الأسئلة
خايف من
الحرس اللي واقف
فوق حدود
الأزمنة
وفي"ناسنا
الطّيبين":
يمارس الشاعر
الكتابة علي نغمة تقابل الزّمَٕنَين
(الماضي
والحاضر) لتعميق معني التباين الواضح
بينهما:
لمًا هبّت
الريح ع الستاير
فكّرتني
بْطير وطائر
كنت دائماً
بَلمَحُه في السما جيّ بالبشاير
فكّرتني
بمركِبه صاحبِت النيل الجميل
هيّ تحكي له
حكاية
هوّ يحكيلها
حكاية
يقصر الليل الطويل
بسّى فين
دلوقتي فين
وحدى لِيه
راحل حزين؟
وفي
"صوت في دمّى"
يتّخذ منحَى
يبدو في ظاهره جزء من ذات المأساة
التي يدور
حولها الديوان،الا أنه من حواديت الذكريات ،تلك البطولات المفقودة التي أودت
بحياتنا إلي مشارف الضعف والهلاك والفقد ،ذكريات ليست خاصة،بل ذكريات عامة،تثير
الشجن وتبعث علي الحسرة والندم ،بين زمن ولّى
موسوم
بالبطولة،وزمن حاضر تخلّى عنها،مستدعياً
صورة سيف
البطل(صلاح الدين)، كرمز للقوة التي نحلم بها،والتي تُعيد لنا كرامتنا المفقودة:
باحلم بسيفك
يا"صلاح"
يرسم بلاد
غير اليلاد
يرسم طريق
غير الطريق
فيه صديق غير
الصديق
…..
يرسم وشوش
طارحة السماح
يرسم وحوش ،
قلبها
كما طير
بيحلم بالبراح
….
يرسم اللوحة
القديمة
… ويعود زمانك
… وقلبك
المليان كفاح
وأيضاً:
أنا حلمي
حدوتة
حكيتها لامّى
زمان
أنا شفت
الدنيا مفروشة
سجّادة م
الاوهام
_إيجازٌ
لمعاناته (حلم_أوهام)
وهكذا استطاع
الشاعر من خلال أسلوب التقابل
أن يفاضلَ
بين عالمَين وزمانَين مُختلفَين، لينتصرَ
لكلِّ القيَم
الأصيلة وروعة الماضي أمام الحاضر
الباهت الذي
يفتقد تلك المعاني النبيلة.. ساق حكاياته عبر"الذكريات"
و"الحواديت"، وأُجزِم أن الشاعرَ في كل دواوينِه غارقٌ في تلك الذكرياتِ
لايبارحها
خيالُه ولاتغادرها كتاباتُه.
ولا يمكننا
أن نغادر قراءةَ الديوان ، دون أن نتوقفَ
عند القصيدةِ
التي عنونَ بها ديوانَه،وهي"حدوتة الشط البعيد" ..وهى قصيدةٌ
تُخبِّئُ في صدرِها أنينَ الجُموع عبر سنواتٍ مضت من المعاناة ،
تثور ولكن في صمت، تحكي ..ولكن في خوف..
يؤكِّدُ فيها
علي أنَّ حتي آلامنا لايمكنُنا البوح بها،
وهل هناك
مأساة أكبر من ذلك ، أن نتاوّهَ ولكن
في الخفاء:
تلاتين سنة
عمّال بيحكي
حكاية واحده
حكاية الشط
اللي مليان بالأماني
تلاتين سنة/ع
القهوة/ أو فوق الرصيف
وكان
يشوفني/يقوللّى فينك
فيه حكاية ح
احكيهالك
فيها سرّ
/بسّ إوعا تطلّعه
خلّى الكلام
بيني وبينك
……….
ورغم
المواراة ، واصطناع حوار يخفِّف من خلالِه
المواجهة
المباشرة مع مَن حرمونا حقَّ البوح
،واعتبار البوح جريمةً تستدعي الحظر،الا أنَّه أفصح عما يريدُ بطريقتِه ، وأخرجَ
نفسَه من هذا المأزق بحرفيّة الأديبِ
الواعي ،وتلك هي موهبةُ
الأديبِ
الحقّة ، حين يحتالُ بأسلوبِه علي كل معوِقاتِ التعبيرِ والحرية ، وأن يتسلّلَ
_عبر صُورِه وتركيباتِه البلاغيةِ، ومايمتلك من أدواتٍ أخري_ليصِلَ إلي القارئ
..فينفعلُ به ومعه بما
أراد حقيقة
في طيّاتِ كلماته.
*مختارات من
قصائدِه مررنا بها ، ورسمنا من خلالِها ملامحَ عامّةً للديوان ، وأهم محتوياته…
وفيها أن
الشاعر ُ تشيعُ في قصايدِه سلاسةُ العبارة
ووضوحُ
الصورة في عاميّةٍ رَقراقةٍ تتماوجُ بانسيابٍ دون تلاطُم ، تُغري القارئ بمتابعتها
دون
ملَل.
_تحياتي للشاعر
،متمنياً له كل التوفيق.