حضارة المسرح ومدرسة الرواية
العقيد بن دحو
ان المسرح لم يعد لهوا و لا ترفا يبدو انه بدأ حياته هكذا...لكن التطور
الحضاري و الثقافي جعله ثقافة و حضارة... اما الان فهو توعية ...تعبئة... وسلاح.
صحيح البداية ربما كانت هكذا...المسرح الارسطوي ؛ الكلاسيكي ؛ التقليدي
الأخلاقي ؛ يوفر الرفاه و الترف وزخرف
الاقوال. التطهيري التكفيري من ادران انفعالات النفس.
ولكن عندما رأوا فيه الناس انعكاسا لواقعهم المعاش. محاكاة لاقوالهم و
افعالهم احتووه ؛ و احتضنوه و صار جزءا لا يتجزا من عضويتهم و انتماءاتهم ، و نوعا
من الاحتفالات الحضارية بين البشر و الآلهة و انصاف الآلهة و الابطال.
ولما رأت الدولة الاثينية احتضان
الشعب لهذه الأعياد(ديونيسيوسية) ؛ أين كانت تقدم القرابين و الدبائح ، بل من خلال
ارائه كان تعتمد الدولة المدينة و المدنية
الاغريقية مساطرها و قوانينها التي تسير حكوماتها مناهجها وبرامجها وتقدمها
للشعب في شكل استفتاء سياسي.
ومع التطور الثقافي و الحضاري اتخذ المسرح طابعا مؤسساتيا استراتيجيا و
استشرافيا لا يكتفي بعرض المسرحيات دوريا بل
يعرض و يناقش و يحلل مختلف التصورات الذهنية و العاطفية و الجسمانية على
الركح و ما بعد العرض حيث يتم التقييم و التقويم.
انبثق عنه ولادة مختلف المذاهب و المدارس المسرحية الفنية نتيجة لاختلاف
الرؤى ووجهات النظر و كل مخرج الزاوية التي يرى من خلالها توصيل اهداف و مقاربات
مسرحياته إلى الجمهور.
فشهدت البشرية عدة مدارس و لم تعد
تكتفي بالتطهير و لا التكفير و انما التفكير و التغيير.
ولما كان المسرح أبت
للفنون انعكس هذا الازدهار بشكل
مباشر و غير مباشر على بقية الاجناس الأدبية و الفنية الكلاسيكية و الحديثة ، و
منها فن الرواية.
اذ صار الروائي فنانا كما صارت الرواية فنا زمكانيا ، كما صارت تقتات من
طبائع المعاشة ووقائع الشعور ، كما كفت عن مجارات التاريخ و الاكتفاء بالخبر و
الرصد و تقوم مقام الصحافة. بل صارت الرواية ثري رجل حرب القرن التاسع عشر . فقد
أصبحت تمتلك الثروة الضخمة الثابثة من التصوير الاجتماعي ؛ و معظم الاسهم في مصرف
التاريخ و رقابة المآسي البشرية ، كما صار لها فندقا خاصا بباريس مع بورجيه ، وفيلا على البوسبور مع لوتي ، و اقطاعات في
الارياف مع بلزاك وفلوبير ، وحتى عام 1800
لم يكن يطلب منها الناس الا ان تسليهم
وتؤثر فيهم ؛ اما الان فإنهم يراجعونها
فيما يتعلق بمشاكل الفقر او الطلاق. وصار لها لافتات من الادعاءات العلمية.
ومع وصول الإله( بلزاك) الخالق عمل على
مصافحة الاكليل الشعري و يسامت المقدس الأدبي. اتخذت الرواية منحى و بعدا آخر نفسيا ؛ اذ لم
تكتف بالتعبير الجسدي الذهني ؛ بل غاصت في أعماق أغوار النفس البشرية باحثة عن الانا و الآخر؛ و كذا ( الاد)
الفرويدية، من حيث الطفل ابا الرجل و الطفل أبا الإنسان كما هو الأسلوب هو الرجل
وهو المجتمع عند (بوفون).
لقد صارت الرواية حالة اجتماعية بقدر ما هي حالة نفسية فاقتربت من شتى
العلوم و شتى الفنون ؛ و تكيفت مع الطارئ القلق ؛ الثابت ز المتغير و أصبحت مدرسة
مستقلة بكينونتها لها منهاجها التجريبي و التجريدي فتارة تصير علما من العلوم ، و
تارة اخرى انهارا مستحيلة العبور ، و تارة ذات اثر علاجي اكلينيكي ؛ و اخرى تتخذ
لبوسا دنيويا ومصلى دينيا ؛ محجا للعباد و
التقرب من الإله؛ و اخرى تصير مرضا من حيث الأدب هو مرض الرواية ، حين تلجا إلى
الأسطورة و الخرافة و الحكاية الشعبية كميراثا للفنون.
وحين تلجا إلى اللحظة الابداعية كلمة وحلما تصير شعرا ، و حين تلجا إلى
الفكرة و تصير نقدا او نقد النقد او فلسفة، و حين تلجا إلى القتال و تصير جنديا
مقاتلا او تصير حربا ، و احيانا حين تلجا إلى الحدث و الأثر الذي يخلفه الحدث و ما
بعد الحدث و تصير صحافة او تاريخا ؛ فمن تكون الرواية وقتئذ!؟
لا غرو ان اتخذت من ( سرير بروكست) هدنة وقيلولة الايثاراتها ، و من بروتيه
راعي القطعان البشرية ؛ الحيوانية جنونا لتاريخها ؛ ومن اسمودة مقاسات لاطراح
حيائها !.
لم تكتف الرواية بكل هذا ، و لم تكتف بانتهاك ضمير واحد ، بل عندما راحت
تنتهك عدة ضمائر دفعة واحدة ؛ حسب نظرية العوالم المتداخلة.
اجتاحت الشعر وصارت هي الشعر و العكس صحيح او على حد قول (بول فاليري) :
هناك انصابا تتكلم وهناك انصاب تغني.
بمعنى الشعر رواية مغناة ؛ والرواية شعر مقروء ؛ عندما امتازت بما يمتاز به
الشعر من خصائص فنية تقنية.
اخير صارت الرواية مدرسة اوندراغوجية. ثقافية الغاية منها ان توصل هذا
القلق الروائي الى الدوائر الشعبية ؛ حينها لم يعد الشعار الوحيد : اقراوا قصة
الفيلم في كتاب ؛ بل لقراوا قصة المسرحية في كتاب ؛ و اقراوا قصة اللوحة الفنية و
المنحوثة و القطعة السينفونية في كتاب ؛ بل اقراوا قصة الحياة في كتاب.
حين يتمكن الروائي ان يسجن مجتمعا باكمله بين دفتي كتاب ، بل يحيل ابطاله إلى شيئه إلى متاعه إلى ملكيته ؛ ويقوم عليهم بمختلف التجارب البيولوجية و
الفيزيولوجية و السوسيولوجية.
ساعتئذ يمكن أن نتكلم عن رواية تخلصت كليا من عذابات ضمير ( برومثيوس) و
سلمته لوحش طير الكتابة تنقر فيه مقام تمثالها الشتوي المقدس المهاجر و المستقر
ايضا من بين اسراب آلاف الاطيار التي تغرد خارج السرب ، لكن في الاخير على ان تصب
تلك التغريدات في نفس السلم الموسيقي لمختلف الاصوات مشكلا اعذب واعجب السينفونيات
إذا مستها يوما ما عصا موسى .