علي بك الكبير.. مسيحي بيع في أسواق الرقيق
...ورحلتُه من الكنيسة لمشيخة البلد في مصر
—----------------------------------------
وُلِد (علي بك الكبير) عام
(١٧٢٨م) في بلاد أبازة (أباظة)
التابعة القوقاز العثماني،وكان اسمه(يوسف)
، وكان (أبوه):أحدَ القساوسة في الكنيسة
اليونانية،
وكان أبوه يعمل علي تنشيته تنشئة دينية ، ليشغلَ
منصباً في الكنيسة ، ولكن
شاءت الأقدار أن يقعَ في
أسر أحد تُجّار
الرقيق الذي جاء
به إلي الإسكندرية عام ١٧٤٣م
،وباعه إلى (ابراهيم كتخُدا) أحد أمراء مصر، فربّاه تربية المماليك المألوفة،فأظهر
النبوغ والتفوّق في
الدين الإسلامي والفروسية،
فأعتقه
أستاذه(إبراهيم) عندما بلغ الثامنة عشرة من عمره ، وولّاه"سنجقاً"
،ورشّحه (عبد الرحمن كتخدا) _ أعظم أُمراء
المماليك جاهاً ومالاً ونفوذاً _ شيخاً للبلد ، وسانده بقوة
لتصفية كل المماليك الأقوياء الذين ينافسونه، ولكنّ خصوم(علي بك)
تغلّبوا عليه ونفوه إلي الشام عام ١٨٦٥م ، ثم إلي
أسيوط .. لكنه
يعود مرةً
أخرى إلي القاهرة علي
رأس مماليكه وأنصارِه ، ويعود
شيخاً للبلد أكثر قوة مما كان عليه
في المرّة الاولى ، وقام بقتل المتمردين
عليه،ويبدّد
شمل خصومه.
كما
أحرز انتصاراً كبيراً عليهم
في طنطا من خلال تابعه المخلص
(محمد أبو الدهب) الذي قبض عليهم وقطع رؤوسهم ودخل من باب النصرومعه صالح بك
والتجريدةة في
موكب عظيم ، وأمامهم الرؤوس محمّلة في صوان من الفضة
والخدم يقولون "صلّوا علي محمد".
وكان الباب
العالى قد أرسل إلى مصر والياً
جديداً
اسمه(دويدار
محمد أورقللّى باشا) ، فلما نجح(على بك) من القضاء على منافسيه،رأي أن يتخلّص
نهائياً من مظهر سلطان الباب العالى
مُمّثلاً فى شخص الوالى ، فاستصدر أمراً
من الديوان بعزل الوالى ،
فأجابه إلي
طلبه وعزل(أورقللي باشا).
وبيّن
الديوان (على بك الكبير) قائمقاماً
علي مصر بعد عزل(أورقللى باشا) حتي
يصل باشا جديد ،لكن (على بك) تعتزم ألّا يسمح لأي والى تركى جديد أن يدخل القاهرة
مستغلّاً إنشغال الدولة
العثمانية بالحرب ضد روسيا.
وكان في ذلك
الوقت قوة أخرى
مُمَثّلة في (شيخ العرب همّام) الذي وصل إلي مرتبة سلطان
مستقل
في صعيد مصر
، بقوة شخصيته وكرمه
وعدلِه ،
وأحسّ الناس
في ظلّه بالأمن والطمأنينة ،حتي كان بكوات المماليك الذين يفرّون من بطش
(على بك)
يلجأون إلي(
شيخ العرب همام) ، فاحنق ذلك (على بك) ، ولم يكد يفرغ من كسر
شوكةِ الاعراب في الوجه البحرى،حتي
وجّح حملة برئاسة (محمد بك أبو الدهب) للقضاء على زعامة شيخ العرب ،وعرب الهوّارة
كلهم…وانتصر أبو الدهب،ولم يلبث أن مات
شيخ العرب همّام حمداً وحزناً..
ومن هنا،
توحّدت السلطة في يد إنسان واحد في مصر،ألا وهو (على بك الكبير)
الذى كانت مطامعُه
تزدادُ
يوماً بعد يوم ، واستكثر
من شراء المماليك لإنفاذ خططه ، حتي
اكتمل لديه نحو
ستة آلاف مملوك يدينون له بالطاعة.
راح (علي
بك) بعد ذلك يتوقّف عن إرسال الجزية التى كان يرسلها للباب العالى
سنويا.
وفي سنة
١٧٧٠م/١١٨٤ه هيّأت الظروف ل (علي بك)
أن يبسط
نفوذه إلى الحرمَين،بعد النزاع بين أشراف مكة ، ولجوء الشريف (عبد الله بن
حسين) ليعاونه
ضد
مغتصب الشرافة منه ،
فبعث إليه قائده
( محمد أبو
الدهب ) وانتصر علي خصم ( عبدالله )
واجلس(عبدالله
بن حسين)على كرسى شرافة مكة،
ولم يجد
(عبدالله بن حسين) مايُعبّر به عن اعترافه بالجميل ، سوى أن يُطلق عليه
لقب (سلطان مصر)
و"خاقان
البحرَين"..كما بدأت الدول الأوربية
تتطلّع
إليه وتتعامل
معه وتحاول الاستفادة
من نفوذه الجديد.
ولم تكن أطماعه
في السيطرة علي
بلاد الحجاز والحرمين وميناء جدّه هي غايته القصوى ، بل كان
هناك مشروع
اقتصادي خطير ،وهوتأمين الشواطئ الشرقية للبحر الأحمر ،لتُصبح ممرّاً آمناً في قبضته لتجارة الشرق في طريقها لمصر،
ومستودعاً وسطاً لتجارة الهند والشرق
الأقصى،ليُعيد إلى مصر الثروة التى
فقدتها من تحوّل تجارة الشرق لطريق رأس الرجاء الصالح.
والتنفيذ
طموحاته ومشروعاته التوسعية ، كان لابد من توفير
الأموال اللازمة لذلك ، ففرض الضرائب
علي قُرى مصر
فوق ماكانت تدفعه سابقاً من خراج،
فخصَّ كل
قرية (مائة ريال)، و(ثلاث ريالات) أخرى أُطلِق عليها اسم حقّ الطريق ، وطلب من
النصارى
(مائة ألف
ريال) ، فتصاعدت صرخات
الجماهير وشكاواها ، ولكن بدون جدوى،فقد تم تحصيل تلك
الضرائب في أسرع وقت.
وكانت الأحوالُ
في الشام قد بلغت ذروتها في الفتن
والفساد
وجباية الضرائب ،إلي أن بزغ نجم (ضاهر العُمَر)الذي اختاره أهل
"طبرية" حاكماً عليهم ، لعدله وحنكته وثقافته وشخصيّته الفذّة،واستطاع
أن يمدَّ
نفوذه وسلطانه
علي صيدا وحيفا
ويافا والرملة ونابلس وعكا،واتخذ من
عكا مركزاً له.
وخافت الدولة
العثمانية من نفوذه وسطوته،فسيّرت له الجيوش،فاستنجد ب(علي بك)الذي جمعتهما معاً
صداقة أيام نفي(علي بك)بالشام،فسيّر له(علي بك)
محمد ابوالدهب علي رأس جيش ضخم يتألّف من
أكثر من أربعين ألف جندى،ونجح أبو الدهب نجاحاً
كبيراً في حملته علي الشام
واستولى علي نابلس والرملة وغزة
، وسُلّمَ إليه بيت
المقدس بسلام،
وكان أبو
الدهب كلما احتل مدينة يولّى عليها حاكماً من قِبَله يحكمها باسم (على بك الكبير) ، ويترك بها حامية
من جنوده .
وتقابل الجيشان
الحليفان المصرى والشامى
مع الجيش العثماني الذي كان تحت
قيادة أربعة من الباشوات،ودارت
المعركة علي العثمانيين،ودخل أبو الدهب دمشق.
هنا كتب قنصل
فرنسا لدولته تقريراً يقول فيه:"أنّ على بك فى يونيو سنة١٧٧١م كان في مركز
يسمح له بأن يعلن نفسه سلطاناً علي مصر وسوريا". ويُعَد هذا التاريخ(١٠يونيو١٧٧١م)
ذاته هو بدء أفول نجم
(على
بك)...لماذا؟
لأن ( محمد
أبو الدهب ) قرّر في
هذا اليوم أن ينسحب بجيشه المُنتصِر
في الشام عائداً به إلي مصر ،وقد فوجئ
العالم كله بهذا الانسحاب
بعد تحقيق هذا النصر الهائل ودخول البلاد
في طاعته،
كما أن المفاجأة
أن (علي بك الكبير) لم يكن هو الامِر بالانسحاب ،بل إنه كاد ينفجر غيظاً
وقهراً لما أقدم عليه أبو الدهب.
والحقيقة أنّ العثمانيين اتصلوا بمحمد أبو الذهب،
ووعدوه بمنصب
شيخ البلد بدلاً من أستاذه علي بك،كما لعب العثمانيون
علي وتر الاخلاص للدين، وأخبرته أن
على بك ترك الطريقة الإسلامية ،واتّبع
طريقة (كاترين) إمبراطورة الروس الذين
تحالف معهم ضد الدولة العثمانية، مع أن كل متدين يجب أن يحارب الروس ،لاأن
يتحالف معهم..وقد صادف ذلك هوىً في نفس (أبو الذهب) الطموح..
واصطدم على
بك بأبي الدهب بمجرّد عودة الاخير
للقاهرة،
وتمّت الغلبة لأبي الذهب … فهرب علي بك للشام لاستجماع قوته وإعادة تنظيم صفوفه
،فقصد فلسطين واجتمع مع صديقه
وحليفه ضاهر العمر في عكا
فتعاونا معاً وهزما
جيشاً عثمانياً أُرسل للقضاء عليهما ، وعاد علي بك لمصر وتقابل
مع على بك عند الصالحية ،وانتهت المعركة بهزيمة علي بك الكبير وإصابته بجرح ثم مات
بعدها بأيام قليلة.
---------------------
حامد
حبيب_مصر