مصطفى حامد جاد الكريم
الموهبة .. ذلك المجهول
.
بعض الأصدقاء الذين لم يقتنعوا بدور اللاوعي فى الابداع يقولون ان الابداع
ينتج عن الموهبة وقالوا ان الموهبة هي هبة من الله ولا علاقة لها بالعقل
لكن كل ما لدينا هبة من الله كالسمع والبصر
وقضت سنة الله ان كل ما يحدث في الدنيا تحكمه قوانين مادية ما عدا ما حدث
للأنبياء من وحي ومعجزات وما يتعلق بالإيمان
والموهبة قدرة ابداعية خاصة توجد عند بعض الناس
والابداع هو أن تأتي بشيء جميل غير مسبوق
فالابداع قدرة عقلية سلوكية
كالرسم او الموسيقى او الشعر
فأين توجد هذه القدرة داخل الانسان؟
كل سلوك الانسان ينبع من المخ
ولا تستثنى الموهبة من ذلك
ونشاط الموهبة لا يصنعه العقل النظري الواعي
لان هذا العقل النظري موجود لدى الجميع
بل هو فقط يستقبل هذه المنتجات الابداعية الجميلة غير المسبوقة فيسجلها وقد
يراجعها لغويا مثلا
اذن فما نسميه الموهبة هو نفسه الجزء العقلي الابداعي اللاواعي
لكن العقل النظري اطلق عليه اسم "الموهبة"
لانه يميل الى اطلاق الاسماء على المجردات ليتعامل معها لغويا
ونشاط "الموهبة" او الجزء العقلي الابداعي اللاواعي هو كباقى
انشطة العقل يهدف الى تحقيق مصالح الذات
وذلك بتحقيق التكيف مع الواقع من خلال خلق عالم مجازى "يريح"
الذات مؤقتا اثناء الابداع
وغالبا فالجزء الابداعي يعمل من خلال نظرية الاحتمالات
حيث يقوم بسرعة المخ الفائقة بتكوين ملايين التوليفات من الالفاظ او
النغمات او الالوان حتى يصل الى التوليفة التى ترضي الذات تكيفيا وجماليا فيخرجها
الى الوعي الذي يسجلها وينسقها
والجزء العقلي الابداعي له وظيفتان
الابداع وتلقي يالابداع
ووظيفة تلقي الابداع نشطة عند جميع الناس
ومن خلالها "يتذوق" المتلقي الابداع فيتحقق له التكيف المؤقت
ايضا اثناء التلقي
فـ"التذوق" معناه ان الجزء الابداعي لدي المتذوق يفك شفرة
الرسائل التكيفية والجمالية للمنتج الابداعي
فيطرب مثلا للموسيقى او للشعر
اما وظيفة صنع الابداع فنشطة عند "الموهوب" فقط
ويقال ان الموهبة يتم صقلها بالدراسة والثقافة والتدريب
وهذه الامور تتم من خلال العقل النظري والقرارات الواعية
فمثلا الشاعر يقرر بوعبه قراءة اشعار كثير لكافة الشعراء
وهذه الخبرة تنتقل من خلال الوعي الى الجزء الابداعي اللاواعي
فالجزء الابداعي يتعلم ويتثقف ويتدرب من خلال الوعي
وهذا ما نسميه "صقل" الموهبة
والناقد قد يستخدم عقله النظري الواعي لمحاولة تفسير الابداع والجمال الفني
فالنقاد منذ نشأ الابداع حاولوا ذلك
فتكلم النقاد العرب عن جزالة الالفاظ وعن المحسنات البديعية
وتحدث ارسطو عن تطهير التراجيديا للمشاهد
وحديثا ظهرت نظريات مثل البنيوية والتفكيكية
لكن كل تلك المحاولات لم تفك الشفرة التكيفية الجمالية للمنتج الابداعي
لان تلك الشفرة معقدة ويتم كتابتها من خلال امكانيات المخ الفائقة
اما العقل النظري فهو يتعامل مع قوانين الواقع ويكتشفها من خلال المنهج
العلمي
ويتقدم في هذا المجال ببطء منذ ارشميدس حتى اينشتاين
وما زال علم تشريح ووظائف المخ بعيدا عن كشف كل اسرار المخ
هذه هي قصة "الموهبة" .. ذلك المجهول
والتي ما زالت مجهولة
