وهران" نوستالجيا المدينة الصادمة
العقيد بن دحو
المدينة عند اليونان حاضرة الاغريق و
الاغارقة تسمى ( بوليس) / Polis ، بمعنى احسن معلم ، عمارا و عمرانا ، ساكنة و سكنا ، انسانا و بيئة
، حيوانا و قوفعة ، حجرا و شجرا و غابة ، جبلا وبحرا و سماءا مدرسة و جامعة.
وانت تتجول في انحاء المدبنة تتعلم ، و انت تكلم الناس تتعلم ، وانت
بالمقهى تتعلم ، و انت بالاسواق تتعلم ، و انت مريض بالمستشفى تتعلم ، و انت بالمسجد تتعلم ، و انت بالسينما
تتعلم ، و انت بالمسرح تتعلم ، و انت بالمدرسة تتعلم ، تحب تتعلم ، تكره تتعلم ،
بال(.....) تتعلم ، و بالشارع تتعلم.
وعندما تمتزج المدينة ؛ مثل مدينة وهران Polis مع
نوستالجيا الحنين Eros يصير
للمدينة رغم شقاوتها ؛ و تعاستها طقس خاص. لا تسكن البؤبؤ و انما السويداء .
الالهة و انصاف الالهة و الابطال هم من اسسوا المدن الاغريقية. اذا امتازت
المدينة بما يمتاز به الاله ، من طقس ديني و دنيوي و فني فكري ايضا.
وهران مدينة صادمة ، مذهلة ، مدهشة ، تصاب بالهائل ؛ من اول نظرة اطلالة
صباح ، عندما تكشف اشعة الشمس عن المتستر و المعلن عنه .
مدينة لم تعد تخشى ما تخسره ؛ اكثر مما خسرته بالماضي و الحاضر ، فضلت ان
تقبل على الله عارية ليكسيها !.
غصبا عن اشواك غرور رياء و خيلاء و
نفاق الناس !.
مدينة هي هكذا.... لسانها على قلبها . ما تعرفش تهدر...قبيحة غير انها
كالطفلة المدللة يحبها الناس مهما اليهم اساءت
.
هذه شان اي مدينة متوسطة لا تستطيع ان تخرجها عن طبعها المالوف ، وتكسبها
تطبعا مزيفا سرعان ما يذوب مع اول اختبار
وهران تجابه المجتمع البشري كما هو في ذاته ، من لا يريد ان يستمع فليغلق
اذنيه ؛ و من الذي لا يريد ان يرى فليغمض عينيه ! با يكون من الاحسن ان يبطل ويختل
عمل الحواس ، ليعيش وحيدا كالليل غريبا عن هذا الوجود
من الافضل في مدينة وهران ان تكون متفهما ! كيما تكشف اك ككائن خرافي عن سر
اسر مكنوناتها ، كيما تبوح لك ببديع الجمال و روعة السريرة وراء القبح لفظا لحظا اشارة الذي تسمعه من حين الى اخر او فد
تراه ، عيش كسائر الناس ترى عندما تريد ان ترى و ذاك اضعف الايمان !.
كانت مدينة وهران ابان الثمانينيات في اوج عطائها الهوميري الكلاسيكي
، تسمع افراحها في كل شارع ؛ زغاريدها ،
صيحاتها ، صرخاتها ، اغانيها ؛ موسيقاها ؛ تسكعها ، اهتلاسها ، جنونها ، كبريائها
، في كل مكان .
مدينة البحر و الجبل لا تنام ، كانت
لا تزال تنزلق شيئا فشيئا مع نديم نسيم اول الصباح صوب البحر ، حتى اقبل
الولي الصالح سيد الهواري ووضع كف يده موقفا انحدار المدينة نحو الكورنيش ، نحو
طحطاحة المواهب ، اين يصير الغناء للناس اجمعين .
تلك الاغاني الرايوية ، التي تلوم الرجل اكثر مما تلوم المراة تنبعث
اصداء كلماتها من كل الجوانب ، من خلف حيطان المقاهي ، حيطان المحلات ، بائع
الشرائط ، من خلف نوافذ السيارات الفارهة ؛ من الدراحات النارية الصاخبة ، الاغاني
في كل مكان . حتى تشعرك بان المدينة صارت اغنية كبيرة تمتد مساحة و لونا ، من
التاريخ الى الجغرافيا الى الفن و الثقافة.
خارج مالوف ذاك الذي يريد ان يعزل المدينة عن الظاهرة الاجتماعية ، كل كلمة اغنية مجمدة ، حديث بالف صوت.
مدينة ليست بطاقة بريد كارطبوسطالية ، تستلم بسهولة لصغار العقول ان بخزوا
عليهاة حماقات مراهقاتهم لبنت تركها على
امل ؛ تنتظر عائدا يعود من افول لا يؤوب
منه مسافر ! .
ان لم تحب في مدينة وهران ففتش عن قلبك ربما ولدت مشوها ، منقوص الحياة
دونه !.
كنت انا العابر الوحيد في شوارع مدينة وهران ابخث عن نفسي ، من حين الى اخر
اصعد الى البيت و اطلع على الشرفة لارى نفسي بالشارع المزدحم كسائر الشباب ، ابحث
عن فتوى اعصم ب نفسي واريح ضميري الذي جئت به من مملكة المحافظين ، افكر في حيلة
كيف اعيش من جديد ، كيف اتكلم ، كيف احب ، كيف اكره ، كيف اقول كلمات ليس
كالكلمات... لاولئك الحائكيات ، التنوريات ، ابمةرسيات في جوقة شرف ملحمة اورفيوس
الراقصة الغنائية ؛ اللواتي يرتدين الحائك مع اصائل كل يوم خميس يجوبن المدينة
الجديدة في حبور . كيف يتمايلن مع ميلان كوكب الارض في الفضاء ، حين يعاتق عطارد
زحل ، و حين تسامت تسامت فينوس فم الاله ابولو .
صرنا فجاة اشقياء بمعنى السعادة ، و سعداء بمعنى الشقاء.
لا احد يعير لنا انتباه ، تبنتنا المدينة و المجتمع الوهراني و صرنا
وهرانيين اكثر من الوهارنة انفسهم !.
، يهب علينا عبق نسيم الاندلس شمالا و العروبة جنوبا و الاسلام شرقا.
و كسائر الشباب كان للجامع عندنا وقت و للاشياء الجميلة الاخرى وقت ايضا ،
غير ان لا اعرف يوما نمنا فيه مبكرا لنستيقظ مبكرا !.
مرت الايام ، الشهور
، السنوات مسرعة ، و مع ذلك درسنا و تعلمنا ! كنت انوي ان لا اعود من حيث اقلبت اول مرة ،
غير ان وشاية ما بطريقة ما وصلت الى ابي ان يلحقني مسرعا قبل ان اضيع ، قلتها لامي
لا حقا و هي تحاول ان تكفكف دمعي في يوم عيد.
ااعجبتك دموعي
حين تبكي الرجال
وطويتم اضلعي كما
تطوى الحبال !؟
لا ارى ضياع اكثر مما انا فيه ، وانا اقتلع من جزري الزيزفونة !.
كانت ترد امي رد بما لا تستطيع عليه صبرا
انساها يا ولدي عقيد
تعز علي دموعك في يوم عيد.
تفاجات بابي في يوم ممطر قادم من اقصى الاقاصي ، من جنوب الجنوب ، من صحراء
الصحراء الى مدينة وهران ، في وسط احوال جوية مضطربة ، في وسط رياح قوية مصحوبة
بزخات مطر قوية ، يدق الباب و كان كل
ابواب المدينة تدق في نفس اللحظة مع نفس الشخص ، متحاملا على نفسي متثائب الحركات
، متلعثم الخطى ، احاول ان لا ازعج من هم معي يملاون البيت نوما و احلام المراهقين
المتقدمة منهم و المتاخرة.
فتحت الباب ، و ظهر لي ابي قد
ازداد طولا و ازداد عرضا ، يمسح شاربه الطويل المعطوف على اعلى.
حذق في طويلا ، اذهله ما راى... تقدم حطوة للامام ثم تراجع خطوتين للخلف ؟
اصاب عيناي الشواش ، رايت ابي طولا وعرضا يتحول الى نقاط ......
ثم لم اصدق ما اكاد اسمع يقول بلهجة شديدة قوية ، مصحوبة باشارات تهديد
ووعيد ، و بمختصر مفيد مبتورة لامن سلام و لا من كلام.
اسمع با عقيد ؛
من للاخر.... !
هذي وهران غير انساها.... !
غدوة الفجر نلقاك عندنا في البلاد !
ثم اختفى ابي كبطل تشكسبير في رواية عاملت ، لم استفيق الا على وقع الباب و كانه ذوي مدفع حرب القرون الوسطى هز
سكان العمارة باكملها.
بعد مرور الوقت كلما فتحت نافذة غرفتي انظر عبر الافق لعلني ارى البحر ،
ارى الكورنيش ، ارى تلك البواخر العملاقة و مراكب الصيد تجوب عباب المتوسط ! لعلني
ارى نفسي ... اعبر الشارع لشرب قهوتي على عجل !، انتظر باقي الرفاق ، انتظر حافلة
الجامعة ، و اما يصدمني ؛ واقعي المرير ،
اتحسس ذاتي و اردد قول الشاعر :
و قائلتي ما بال دمعك اسود ***
وكان مبياضا و انت عليل
قلت لها لقد جفت دموعي من البكا *** و هذا سواد العين منها يسيل .
وهران حبيبتي 29 \ 9 / 1988.