لماذا (افرغت) القاعات العمومية من الجمهور
العقيد بن دحو
قد تعجب بهذه الامسية ، بذاك اللقاء الادبي و الفني و الثقافي ، و انت تقرا
ذاك الاعلان بالبند العريض الطويل و باللغات الثلاث ، حتى اذا ما تحاملت على نفسك
و شجعتها بضرورة الحضور ، تفاجا بحجم الصمت الرهيب ، و قتامة دياجير (الفراغ) الذي
يخيم على كل نقطة من نقاط ما يشغله حيز مكان المرفق العام ، بما يشبه حالة الحزن و
البؤس و الققر، الذي يعيشه الجميع مكانا
وزمانا و بشرا.
لا احد يريد هذا المال و الحال الذي ال اليه المرفق العام و لا سيما
الثقافي الفني الاجتماعي منه.
بل حين تمر على قاعات سينما كانت تزخر بعدد جمهورها ، من كان يقف بالطابور ، و بدفع ثمن تذكرته ليدخل
بهو السينما او المسرح ليشاهد هذا الفيلم او تلك المسرحية.
لا احد اليوم يقف عند باب هذا المرفق ، فمابالك ان يقف بالطابور ، ليقتطع
لنفسه و لعقله تذكرة ما ، تذكره بانه لا يزال في الامكان ابداع اكثر مما كان !.
لا يزال في قلوب الساكنة شيئ من (حتى) فن و ادب و ثقافة.
وحدهما تذكرة ملاعب كرة القدم ، و طابور الملاعب سائرا مفعولا !.
قد يتساءل سائل : لماذا كفت و استغنت الجماهير عن حضور قاعات المرفق العام
!؟
الجمبع يدرك ان حلقة الاثر الادبي الفني الفكري الثقافي لن تكتمل حلقاته
الا بالجمهور.
ذاك الجمهور الذي اصبح اليوم العملة النادرة لاي مشروع تاجح، الفردوس
المفقود لاي قربى ثقافية او ادبية او فنية ، التي بدورها بفعل التراكم و الاضافات
تصبح مصلى ادبيا فنيا فكريا تكفيريا تطهيريا.
ان ايا ذو موهبة ، او صاحب اثر بديع خلاق ، و هو يكتب او يرسم او ينحث او
يمثل او يعزف او يرقص او يغني يستحضر في وجدانه جمهورا ما ، و الا لا شيئ يعتبر
معبرا عنه ان لم يوجه لاحد. او يكون بلا معنى ! كالسحلية بلا رجاء يزحف من الفراغ
الى الفراغ.
ان اي مبدع يباشر مع الجمهور حوارا ما ، حتى ان كان هذا الحوار ان يعلم ،
ان يمتع ، ان يهز ، او حتى ان يكون مبعثا عن الياس او ان يؤثر او يقنع ، او يحرر!.
حوار ديمقراطي نابع من اعماق
الجماهير و لا سيما الدوائر الشعبية.
وعندما يشعر الجمهور بدكتاتورية الخطاب ، و الحوار عموديا ، من اعلى الى
اسفل ، من المنصة او المنبر او الركح الى بهو المسرح . ينسحب الجمهور ببطء و بهدوء
، و يغترب و يلجا الى ادب الهروب ، حيث يسقط عليه ما يشبه سقط المتاع.
ثانيا : عندما يلاحظ الجمهور ان روح الناقد ، المخلص الذي كان يعول عليه في
مثل هذه اللقاءات...الامسيات...الندوات...الدراسات قد اغترب بدوره ، و باع (
اللعب) و المباراة معا ،
وراح براح افرتح و مسرات يوزع الورود على العروسين !.
عاد الجمهور الى دوره القديم ، الى
ما قبل الميلاد كما كان في عصر اثينا الذهبي ، عندما لا يعجبه ( الاثر) يكتفي
بالعويل و الصراخ ، و الهتافات النابية ، و احيانا الرمي بالنعال و القبابيب او
اللجوء الى الصمت او مقاطعة كافة مظاهر
الاحتفالات و الاحتكام و التقاضي التباري ما بين الفنانين ؛ خين كان الجمهور هو
القاضي الاكبر ، و الحكم العدول ، و الناقد الاول و الاخير .
اذن في الحقيقة عندما لا يحضر الجمهور ، فهو يعاقب العرض و صاحب العرض معا
، كونه يعرفه جيدا ، و الكاتب الفنان الاديب المثفف المفكر المحاضر يعرف بدوره هذا
الجمهور . حتى انه قال ( شارل بيتو دوكبلو) سنة 1751 في كتابه : تاملات حول عادات هذا العصر : " انا اعرف
جمهوري ". الذي بدوره الجمهور يعرف صاحبه الاديب الفنان المثقف جيدا، بل
احيانا له معه تجربة مريرة ماسوية ان لم يكن في الادب و الفن و الثقافة بالحياة
اليومية. تجربة فاشلة مع هذا ( السيد)
الذي يطلبه اليوم التزكية و التشجيع.
ما اشقى رجل الادب و الفن و الثقافة و الفكر اليوم و هو يشهد و يشاهد امام الملا عقوبته بام
عينيه ، و يوقع شهادة سوء طالعه بيده.
في حين غير بعيد عن هذه القاعة التي تمارس فيها
الدكتاتورية الادبية الفنية الفنية ، توجد مقهى او ساحة او فضاء مكتظا بالحضور !؟
بام عيناي رايت ذات يوم مخرجا يستجدي الجمهور من مختلف الاعمار و من
الجنسين ان يدخلوا عرضه المسرحي مجانا ؛ لكن بلا طائل !.
عزوف ما بعده عزوف ،
كون الجمهور ساخط و غاضب على الجميع !.
غير ان حيلة اخرى صار يلجا اليها هذا الاخير المحاضر او من يعرض انتاجه الفكري
الثقافي ان صح التعبير ، بحجة واهية ، بان
امسياتهم و ندواتهم ولقاءاتهم موجهة للنخبة(....)! او لنخبة النخبة (...) !؟
اي نخبة تلك التي اوصلتنا الى ما نحن عليه من تفكك ، تفتت ، عدمية ، و
هروب... !
بطبيعة الحال هذه اكبر اكذوبة عرفها التاريخ الثقافي الادبي الفني الفكري
الجزائري.
ان لم يكن ( الاثر) لفطا او لحظا او اشارة موجها لاي احد ؛ اي موجها الى
جمهور ، سيكون هذا الاثر بلافائدة او
بلاغاية تذكر ، او فتش عن صاحب ( الاثر) ، ربما الجمهور قام له خيمة محكمة ضمير
سابقة و حاكم شخصه قبل ان يحاكم اثره !.
اذ ؛ لا يمكن فصل الظاهرة الاجتماعية عن الظاهر الادبية الفنية الثقافية (
روبيرا اسكاربيب).
اذن سقطت حجة ( النخبة) و لم يعد الا مدى مصداقية هذا الاخير امام محبة
الناس.
او " ما جدوى اغنية بلسان الملائكة و الانبياء و ليست لها محبة "
/ (سوزا).
غياب الحوار اساس معضلة و مرض قاعاتنا ، مرض الامراض ما يعانيه من داء انات
و اوجاع فراغ الجمهور ، الحوار الداخلي في الاثر نفسه ، و الحوار الخارحي ، حوار
صاحب الاثر مع الجمهور مع الناس..الجمهور يريد ان يرى نفسه قي القاعة من خلال من
يحب من المبدعين ، من يثق بهم ، من يرى فيهم العدل و الحرية و المساواة و الحب و
الاخلاص ، من يحب لهم الخير كما يحبه لنفسه.
الجمهور اذكى مخلوق على وجه هذه البسيطة ؛ فهو بالسليقة ووفق سذاجة البداية
يعرف المبدع الزائف حتى ان تحصل على جائزة نوبل ، من المبدع الصادق حتى ان لم يكتب
شيئا ، او لم يرسم شيئا ، او لم ينحث شيئا ، او لم يمثل يوما دورا ما.
لم يعد الجمهور يكتفي بالحضور السلبي ، فيما يملي عليه صاحب العرض
دكتاتوريته الرعناء !. صار شريكا في صناعة الاثر ، بل الجمهور صار هو المبدع.
يريد ان تتحقق في المادة التي تعرض امامه اهم خاصية فنية و هي
"العدالة الشعرية" ، من حيث الجريمة لا يبطلها التقادم ، و لا يطالها
زمان و لا مكان ، و ان الجريمة لا تفيد -
فهي فكرة ادبية فنية قبل ان تكون جزائية -
و ان القانون لا يجب ان يكون مناهضا للعدالة.
وكما يرى ان لا يقوم هذا المبدع بدور ( الحاجب) قديما ، كان يريد ان يواري
للنظام الحكم و للسياسة ما لا يسره و يسعده ، الا ما يريد ان تراه من المجتمع !.
او كان يعمد هذا المبدع من مرض تاريحي او من عقد نفسية يريد ان يفرغها على
الجمهور !.
لذا يدعي هذا الجمهور بانه لا يعرف شيئا عما يلعب امامه ، و هو خير
العارفين بكل شخص يكثر اللغط و العط و المط و الشط امامه ، و ساعة الحسم ينزل
مطرقة الحكم باسم الفن عقوبة الهجر و الفراغ على القاعات و من فيها !.
فاختياره المقهى او الساحة ليس خيارا ، انما الناي بالذات و يبغث برسالة
شديدة اللهجة : ان لم يعد المبدع الى ابداعه الاصيل ، و الناقد الى نقده النزيه ،
ساترككم نهبا لا صدقائكم الذين يتملقونكم ، الى الكراسي الفارغة ليصب عليكم اليباب
اكبر عملية صب (تفريغ).
اكبر عملية تفريغ هائلة...تفريغ للكراسي...تفربغ للكلمات...تفريغ
للمعاني...تفريغ للافكار...تفريغ للافعال...تفربغ للناس...، و تفربغ لكل شيئ.
الضحية في الاخير هو المرفق العام التي كلفت الدولة الملايير من الدينارت
سواء الانشاء او الترميم ، كيما يصبح لكل فرد من افراد هذا الجمهور مقعدا فنيا
ثقافيا مضمونا ، و اذ به كرسي ؛ كرس خصيصا للعب دور البديل الغائب!.
اما لا حديث عن الادارة و صاحب الاثر ؛
كونهما مسبقا اتفقا على بيع الوهن و الوهم ، يصدقون ما يدور في اللاوعيهم ؛
بان ما يجري امامهم عين الحقيقة و عين الصواب. ان ما يقوله صاحبهم ابداعا ، و
الكراسي الفارغة جمهورا ، و الصمت سمتا ، و الحبور حضورا ، و القلق تصفيقا.
خسارة ما بعدها خسارة مالية و ناجية و معنوية ، و فشل تسيير ما بعده فشل و
الجمهور يشن لعنة الاضراب الثقافي غير المعلن و لا من يحرك ساكنا و كاننا نعيش في
كوكب فضائي ينعدم فيه الوزن الثقلي ، او
ينعدم فيه الوزن العام .