تلقِّي شعرية الحذف عند الشاعر "محمد محمود الساسي "
بقلم الأستاذ الشاعر محمد نور إسلام
أولا: القصيدة
لأنه
لونَه لم يقدح العُشْبُ
إلا بما اقتبست من قدسك
السّحْبُ
ولم تكن
في حنايا الريح غير صدى
لظلّك الشمس والأقمار
والشّهْبُ
لأنه
حين هزّ الطين في أزلٍ
بسرّك .. اسّاقط
الإدهاشُ والحبُّ
غنى الحمام
بياضَ الأفق مُقترِحًا
على شفاه الأماني أنّكِ
النَّخْبُ
لأنّ
خندقَ قمحِ الآدميّة ما
أَشْهرتِ حينَ تَشهّى
مِنجلاً خطْبُ
وحين
أُغْضِبْتِ أوراسيّةً وُلدتْ
تفني جيوشَ الدجى
القَحْطِيّةِ الحرْبُ
للأبجديّةِ
قام الدهرُ مُبتكِرًا
مُذْ سُجَّدًا لكِ
خَرَّ الشرقُ والغرْبُ
لكنّه
لمْ يقلْ للآنَ عنكِ سوى
أَنْ لِاخْضِرارِ
المرايا أنّكِ الربُّ !
ولمْ أقلْ _
وابنُ باديسَ امتدادُ
رؤى
لطارقٍ فيكِ _ إلَّا ما
نَمى الدرْبُ
لا عمرَ
ما لمْ أعِشْهُ مُنشدًا
بِدَمِي
جزائريّ الهوى مُذْ كان
لي قَلْبُ !
ثانيا: الدراسة
يعتبر الحذف من أهم الملامح الأسلوبية التي
تضفي على النص الأدبي جمالا و رونقا و تدعو إلى التبصر و اعمال الفكر في المسكوت
عنه و المضمر و قد قال في هذا الصدد الجرجاني
"هو باب دقيقُ المَسْلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأَمر، شبيهٌ
بالسِّحْر؛ فإنكَ ترى به تَرْكَ الذكر، أَفْصَحَ من الذكْرِ، والصمتَ عن الإفادةِ،
أَزْيَدَ للإفادة؛ وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ
بياناً إذا لم تُبِنْ" و هذا الذي دعا إلى هذه الدراسة المتواضعة في قصيدة
الشاعر " محمد محمود الساسي.
في مطلع القصيدة يجيب الشاعر عن السؤال
" لماذا" المحذوف حيث يقول :
لأنه
لونَه لم يقدح العُشْبُ
إلا بما اقتبست من قدسك
السّحْبُ
و هنا تظهر شعرية الحذف التي تجعل المتلقي
يتساءل عن السؤال المحذوق و عن خيط يتشبث به حتى يصل إلى رضى عقله، فيقول من يسأل
الشاعر؟ و لماذا لم يذكره و يريح فينا الفضول ؟ و ما كان هذا السؤال العظيم حتى
يجيب عنه الشاعر بفيض من الإبداع؟ و هل كان هذا التساؤل بين الشاعر و نفسه؟.و
بينما يحمل المتلقي قنديله في الظلام محاولا كشف هذا الغموض يجد بعض نور في قول
الشاعر " لأنه" فيطفو تساؤله مجددا مَن هذا الذي كتب عنه الشاعر بضمير
الغائب؟ أهو شخص أم بلد أم كوكب أم....؟ فتولد رغبة عارمة في ذهن المتلقي لجواب يشبع
تساؤلاته و لا حل له إلا أن يكمل القراءة في البيت الثاني:
ولم تكن
في حنايا الريح غير صدى
لظلّك الشمس والأقمار
والشّهْبُ
يتفاجأ المتلقي أنه لا
جواب بعد لتساؤلاته الكثيرة إلا أن يتشبث بالفعل " تكن" في صدر البيت
الثاني الذي يمثل الضمير (أنت) و يتشبث بمطلع الشطر الثاني الجار و المجرور (
لظلّك) حيث يمثل أيضا الضمير (أنت) كأمل مضاعف بعد ضمير الغائب في البيت السابق في
" لأنه"(هو)
فلا يلبث المتلقي إلا
أن يطرق باب البيت الثالث لعله يفتح له ما وجده من مغاليق في البيتين السابقين
فيقرأ:
لأنه
حين هزّ الطين في أزلٍ
بسرّك .. اسّاقط
الإدهاشُ والحبُّ
فيتواصل الاضمار و تتواصل الدهشة و لا يمسك
المتسائل إلا بالضميرين المتجسدين في قول الشاعر مجددا (لأنه) الممثل للمحذوف
بالضمير الغائب(هو) و قوله (بسرك) الجار و المجرور التي تمثل ضمير المخاطب(أنت) و
يواصل المتلقي
بحثه عن تلميح أو تصريح
يسكت به التساؤلات المتوالية فيمر إلى البيت الموالي :
غنى الحمام
بياضَ الأفق مُقترِحًا
على شفاه الأماني أنّكِ
النَّخْبُ
فيجد المتلقي في أغنية الحمام التي تشكل بياض
الأفق معنى السلام فتتفكك بعض مغاليق النص و يتضح الإدراك أن هذا الخيط الغائب و
المخاطب مذ مطلع القصيدة هو
"الوطن" و ما يلبث أن يتأكد المتلقي حتى تساوره الشكوك بعد قراءة
الشطر الثاني من هذا البيت " على
شفاه الأماني أنّكِ النَّخْبُ" حيث تحول الوطن الذي كان يتجلى منذ البداية في
ضمير المذكر "هو" و " أنت" إلى ضمير المؤنث في قول الشاعر
" أنكِ النخب" و تتواصل القراءة في بطن هذا الشك :
لأنّ
خندقَ قمحِ الآدميّة ما
أَشْهرتِ حينَ تَشهّى
مِنجلاً خطْبُ
و يتواصل التساؤل في
هذا البيت المكثف بالدلالات الثانوية عن العنصر الأساس المتواري في الفعل"
أشهرتِ" فمن التي أشهرت؟ و في البيت الموالي ينقشع الضباب عن عيني المتلقي في قول الشاعر :
وحين
أُغْضِبْتِ أوراسيّةً وُلدتْ
تفني جيوشَ الدجى
القَحْطِيّةِ الحرْبُ
ففي هذا البيت تتشكل
الرؤية و تفر تلك الغيمة التي أخفت بظلالها الشمس حين ينسق المتلقي بين ما جمع من
دلالات و ايحاءات و قرائن لما يستحضر قول الشاعر في صدر سابق "غنى الحمام
بياض الأفق مقترحا" مما يدل على السلام و في قوله " تفني جيوشَ الدجى
القحطية الحربُ"
دلالة الحرب و قوله
"أوراسية ولدت" و الأوراس بالجزائر و في قوله (أُغْضِبْتِ) إذا يعود
الضمير على الجزائر .. الجزائر التي سُئل الشاعر عنها فأجاب بهذه القصيدة الملهمة
و هذا النسيج اللغوي المحكم و هنا تفك شفرة النص و تتضح دلالة الضمير الذي تساءل
عنه المتلقي في كل الأبيات السابقة. و من هنا يتضح أن الشاعر "محمد محمود
الساسي" كان يتغنى بالجزائر من أول وهلة و يفخر ببطولاتها و شجاعة أوراسها في
الحرب ضد الإستدمار حتى رقص الحمام و نالت استقلالها..
و لم يتغن الشاعر فقط
بالبطولات في ثورة التحرير المجيدة إنما تغنى بالعلم و الثقافة في قوله:
للأبجديّةِ
قام الدهرُ مُبتكِرًا
مُذْ سُجَّدًا لكِ
خَرَّ الشرقُ والغرْبُ
و يتواصل الحذف في
البيت الموالي في قوله:
لكنّه
لمْ يقلْ للآنَ عنكِ سوى
أَنْ لِاخْضِرارِ
المرايا أنّكِ الربُّ !
حيث يتساءل المتلقي من
الذي لم يقل؟ إلا أنه يجد جوابا شافيا في البيت السابق على أنه " الدهر
" و يواصل الشاعر فخره واعتزازه في قوله :
ولمْ أقلْ _
وابنُ باديسَ امتدادُ
رؤى
لطارقٍ فيكِ _ إلَّا ما
نَمى الدرْبُ
حيث يفخر الشاعر بالعلامة الجزائري "بابن
باديس" و جعله امتدادا ل"طارق بن زياد" و يختم الشاعر قصيدته
الفياضة بالفن و الجمال بقوله مصرحا بهواه الجزائري و أنه مذ دق قلبه أول مرة و هو
عاشق لهذا الوطن العظيم :
لا عمرَ
ما لمْ أعِشْهُ مُنشدًا
بِدَمِي
جزائريّ الهوى مُذْ كان
لي قَلْبُ !
و نلاحظ الحذف في بداية الشطر الثاني في
قوله " جزائريّ الهوى مُذْ كان لي قَلْبُ " حيث حذف المبتدأ (أنا) و
الأصل ؛
أنا جزائريّ الهوى مُذْ
كان لي قَلْبُ و هذا الحذف يدل على حبه للجزائر أكثر من نفسه و أناه التي حذفها في
سبيل هذا الهوى و هذا ما جعله ينتقي عنوانا مناسبا لقصيدته المتمثل في
"جزائري الهوى"
عموما القصيدة مترعة بالجمال تجسد عبقرية
الشاعر التي تجعل من المحذوف و المضمر و المسكوت عنه وسيلة لاثارة التساؤلات مما
يجعل المتلقي يواصل عملية البحث فلا تهدأ له نفس حتى يفك شفرة النص.