مسرح الفلسفة وفلسفة المسرح
العقيد بن دحو
لم تك في البدء الكلمة فحسب ، بل كان الحلم ، ثم الفكرة ، ثم الفعل.
صحيح كانت الاغريق القديمة ؛ و الاغارقة القدامى يولون اهمية لشرف الكلمة و
لنبل المعنى و لدفء الحياة.
لكن مع التطور الثقافي و الحضاري للامم و الشعوب ، اكتشف النقاد و الباحثون
جواهر مكنونات ما يكتنفه الفن الاغريقي و الروماني ، عبر اهم روائعه الإنسانية الخالدة ، لاسيما عبر "
الاليادة" و " الاوديسة" لهوميروس ، و عبر " ثيوغونيا/ Theogonie " لهزيود ، و عبر " الانيادة " لفرجيل ، و عبر
" الشاهنامة" للفردوسي ، و عبر " المهابهارته " ملحمة الهند
الكبرى.
بل ايضا الدراما اليونانية بشقيها الكوميدي و التراجيدي الماسوي لشعرائه
الكبار مثل " صوفوكليس" ، " اسخيلوس" ، "
يوريوبيدس" ، و" ارستوفانز " و غيرهم كثير. ليكتشف وراء كل نص درامي ، لا وراء كل فقره ، بل وراء
كل كلمة تحمل فكرة مجمدة. لم تكن مجرد أساطير اولين لا غناء فيها ، بل قضايا عدة
ضمنها الشاعر ( المؤلف) تصوراته ووجهات نظره الفلسفية ، و الشبيهة بالتاريخ حتى لا
اقول التاريخية منها.
كانت الكلمات نفس جماعية لا فردية ، لا تصف الزهور او القرابين التي تدفع
وترفع او تقدم لذاك الإله او نصف الاله او البطل ، و انما تشير إلى عظمة و شان هذا
الآلهة او نصف الإله او البطل.
وبما ان الاساطير بالغالب لا تفهم فإن الكلمات بحد ذاتها لا تفهم ، سرعان
ما تلتف حول نفسها و تصير قضية فلسفية او جدال فلسفي كليات او بعض او بعض بعض !.
صحيح المسرح قديم قدم الزمن ، ولد مع الإنسان، سابق عن الفلسفة و التاريخ
معا.
ومنذ ان اجاب ( اوديب ملكا) عن اللغز ، صارت الأسئلة بمحل الكائن الخرافي ؛
( الهولة - ابو الهول - السفانكس- المونيتور ) أسئلة فلسفية من قبيل فعل درامي و
نقيضه . تطرح أسئلة وجود الإنسان و حريته ، و مسألة الجبرية او الخيار عن طريق
دلالات رمزية ولبوسات ولوغوسات كائنات خرافة شريرة ام خيرة.
كأنها تطرح ابعادا اخلاقية متل
الأسئلة الكلاسيكية : هل الجريمة تفيد ؟
او هل القانون يكون مناهضا للعدالة؟
اوتلك الأسئلة الوجودية !او التعبيرية ، حين تتضمن الكلاسيكيات مخرجات و
اخراجات معاشة يتضمنها كل كاتب مقتبس تصوراته الذهنية بما يخدم عصره ومدرسته و
مذهبه الفني.
عادة ما يصير الشعراء ، اليافعين ، المبدعين شعراء ، إذا ما حولوا احلامهم
، احلام النوم و اليقظة إلى نماذج صور.
بل ؛ يكون الشاعر شاعرا ، إذا ما كتب الشعر ما بعد مرحلة الصور. قد تأتي
حينها مرحلة الفكر ، و قد يصير الشاعر ناقدا او فيلسوفا.
الفيلسوف هو شاعر سابق ، لم يعد يعبر عن نفسه بالصور ، و تعهد الفكر من
اضمن الوسائل للتغلب عن الغم و الوحدة.
واذا كانت اللغة بين هذا وذاك : الاتصال بين ما يمكن ادراكه و شيئ يمكن
ادراكه ، و اذا كان الشعر من جهته الاتصال بين ما يمكن ادراكه و شيئ لا يمكن
ادراكه.
فإن الفلسفة هي الاتصال بين ما لا يمكن
ادراكه و شيئ لا يمكن ادراكه او هو كل هذا دفعة واحدة لغة و شعرا و حلما و
فكرا و فعلا ، كتلة ، مساحة ، حجما ، لونا.
اكتشفت الفلسفة حينها بالتحليل دون التركيب ، ودون ان تضع نفسها محل (اوديب
ملكا) لتجيب عن اللغز ، و بالتالي تفقد البصر و البصيرة معا ، ودون ان تضع نفسها
محل الكاهن الأعظم (تريسياس) الذي يتلقى الاوامر من مملكة السماء ( اورانوس) !.
كما لا تستطيع أن تدفن راسها بالتراب ، و تزعم انها تجتاز اقطار الأرض،
عالم مملكة الأموات ) هيديز) لتجلب واحدا من موتى الدراما لانقاذ التراجيديا ، و
هي تعلم من افول لا يؤوب منه مسافر.
تعهدت الفلسفة الفكر لتقترب ، و تصبح فنا زمكانيا من الفنون.
ولا يكون الفكر الا في صورة لفظية او مرئية او مسموعة ، فهي مرئية عندما
يكون الفكر عبارة مكتوبة تراها عين القارئ.
وهي مسموعة ، حين يكون الفكر ، كلاما منطوقا و يدخل في باب الفكر المسموع.
اخيرا صارت الفلسفة فنا من الفنون فلقد كفت عن مجاراة التحليل و التفكير
العظيم السفسطائي على وزن او مقاس : من خلق اولا؟
البيضة ام الدجاجة ! ؟
اخيرا صارت الفلسفة فنا مسرحيا كما صار المسرح فلسفة تجمع بين النقد
السيكولوجي و النقد الاجتماعي ، تصف الحيوان مع قوقعته ، و يفسر الإنسان ببيئته و
اقوله، مانحا اياه فرصة السيطرة على بيئته و ابداع مصير له.
واذا كان الرسام يرى بالألوان، و النحاث يرى بالحجوم ، و المسرح يرى
بالانطباعات المعاشة او واقع الشعور او الإيقاع فان الفيلسوف اخير صار كالشاعر
الخالق، و كالعراف العرف ، و كالجندي المقاتل القتل ، فإن الفيلسوف صانع او مبدع
أفكار، بل يعمل على نقلها للناس لتتفاعل معها ، و تضعها في موضع التجريب و
التجريد.
ولعل المفكر الفيلسوف المسرحي الطبيب الألماني( برتولد بريخت) رفض ان تظل
فلسفته حبيسة او رهينة دماغه ، بل جعلها تسري في ادمغة الناس ، في كيانهم ، في
وجداناتهم ، لا تكتفي بالتطهير و التكفير الارسطوي الكلاسيكي القديم ، بل التفكير
و التغيير ، كما عمل على نقل تاملات و تفكير الفيلسوف إلى الجمهور ، و جعل منه (
القابلية) للتفكير. لت يتلقى تلك الخطابات الأوامر و النواهي الرنانة، المحشوة
بزخرف الاقوال ، و فخامة الالفاظ و اللباس ووحدة النغم و الأسلوب وعظمة الشخصيات،
في مكان واحد و في يوم واحد يتم فعل واحد ، بل ان يفكر و لا يخرج من المسرح ليس
كما دخل له اول مرة ، ان بكون قد وجد الحل لبعض مما يعرقل ويعيق مجرى تقدمه
بالحياة.
اذن المسرح كان منذ البدء فلسفة ، و كان عيد (ديونيسيوس) هو عيد المسرح و
الفلسفة معا ، كما كان نخبهما معا. و الجوقة / الكورس كورسهما.
ولقد دافعت الفلسفة يوما عن المسرح ، يوم اوقف عرض مسرحية (ميلوس حبيبتي)
احزن افلاطون حزنا عظيما يوم نوفي شاعرها الدرامي لإيطاليا. ويوم توقف العرض وفرضت
السلطة 100 دراخما عن الشعب الاثيني.
مسرحية كانت تحاكي سقوط المدينة أمام الفرس( البيسيستراس) اي البرابرة. ضجت
الجماهير بالبكاء و كان يسمع عويلهم و صراخهم و بكاءهم مسافات بعيدة.
كما أن تعتبر ( الثيوغونيا) أنساب الآلهة واحدة من تلك المقاربة بين المسرح
و الفلسفة. اذ لا قيمة للمسرح دون أن تفسر تفسيرا فلسفة، و لا قيمة للفلسفة دون أن
تتضمن ابعادا درامية.
الفلسفة اليوم صارت واقعا معاشا... ومواقفا نحياها بالبيت في أماكن العمل
بالطرقات بالمدن ، و لكل شيئ في الوجود يضم فكرة فلسفية ان حاول الإنسان الفنان ان
يلقطها في مجرى الزمن يضيفها إلى الطبيعة كنفي لحظة لا يطالها الزمن ، بل خلوده.
جميل ان نعجب بألوان لوحة زيتية فنية ، لكن الاجمل ان نعير وراء الزخرف ، و
نكتشف تلك الخلفية و المرجعية التي تبون الذائقة الفنية لدينا ، و يختلف فيها
اختلال الحواس ، كان نجعل المرئيات مسوعات ، و المشمومات أذواق، و الملموسات
مرئيات لما تغنى به اللغة المسرحية و اللغة الفلسفية معا .
اختلال الحواس او الايكولاليا او تداعي الخواطر بالوعي و اللا وعي ايضا.