محمد الطحيني
الشريعة اليهودية
فإذا حاولنا الآن على الرغم من جهلنا بالموضوع عامة أن نصور باختصار، بعض
مناحي هذا التلمود الضخم، الذي تتأثر به كل صغيرة وكبيرة من حياة العبرانيين في
العصور الوسطى، إذا حاولنا هذا وجب علينا أن نقر من بداية الأمر أننا إنما نخدش
الجيل، وأن معالجتنا إياه من خارجه تعرضنا لا محالة للخطأ.
يقول رجال الدين اليهود إن من واجب الإنسان أن يدرس الشريعة مسطورة وشفوية،
ومن حكمتهم المأثورة في هذا المعنى قولهم: "إن دراسة التوراة أجل قدراً من
بناء الهيكل". وإن من واجب الإنسان وهو منهمك في دراسة الشريعة أن يقول لنفسه
كل يوم: "كأنا في هذا اليوم قد تلقيناها من طور سيناء"، وليست الدراسات
الأخرى بعد ذلك واجبة؛ فالفلسفة اليونانية والعلوم الدنيوية لا تصح دراستها إلا في
تلك الساعة التي ليست ليلاً ولا نهاراً. ويعتقد اليهود أن كلمة من كتابهم المقدس
من كلمات الله بالمعنى الحرفي لهذه العبارة، وحتى نشيد الإنشاد نفسه إن هو إلا
ترنيمة موحى بها من عند الله-لتصور بصورة مجازية اقتران يهوه بإسرائيل عروسه
المختارة. وإذا كان انعدام الشريعة تعقبه حتماً الفوضى الأخلاقية فإن الشريعة وجدت
لا محالة قبل أن يخلق العالم "في صدر الله أو عقله"، وكان إنزالها على
موسى لا شيء غيره حادثاً من حوادث الزمان. والتلمود أو بعبارة أدق جزؤه الذي يبحث
في الشريعة (الهلكا) هو أيضاً كلمات الله الأزلية، وهو صياغة للقوانين التي أوحاها
الله إلى موسى شفوياً ثم علّمها موسى لخلفائه، ولهذا فإن ما فيها من الأوامر
والنواهي واجبة الطاعة تستوي في هذا مع كل من جاء في الكتاب المقدس، لأنها صورة من
الشريعة معدلة جاءت متأخرة عنها. وكانت بعض قرارات الأحبار تتعارض تعارضاً صريحاً
مع قوانين أسفار موسى الخمسة، أو تفسرها تفسيراً يبيح مخالفتها. وكان يهود ألمانيا
وفرنسا في العصور الوسطى يدرسون التلمود أكثر مما يدرسون الكتاب المقدس نفسه.
ومن المبادئ البديهية في التلمود، كما أن من المبادئ البديهية في الكتاب
المقدس وجود إله عاقل قادر على كل شيء. وقد وجد بين اليهود من حين إلى حين عدد من
المتشككين أمثال اليشع بن أيوبا العالم الذي اتخذه الكوهن ماير صديقاً له، ولكن
يبدو أن أولئك المتشككين كانوا أقلية صغيرة لا تكاد تجهر بآرائها. والله كما يصفه
التلمود إله متصف صراحة بصفات البشر، فهو يحب ويبغض ويغضب ويضحك ويبكي. ويحس بوخز
الضمير، ويلبس التمائم، ويجلس على عرش يحيط به طائفة من الملائكة المختلفي الدرجات
يقومون على خدمته، ويدرس التوراة ثلاث مرات في كل يوم. ويعترف رجال الدين بأن هذه
الصفات البشرية قائمة على الافتراض إلى حد ما، ويقولون: "إننا نستعير له صفات
من خلقه نصفه بها لنيسر بذلك فهمه"؛ وإذا لم يكن في مقدور العامة أن يفكروا
إلا على أساس الصور المادية فليس الذنب واقعاً عليهم. وهم يصورون الله أيضاً بأنه
روح الكون غير المنظورة، السارية فيه كله، تمده بالحياة، تسمو عليه وتلازمه في وقت
واحد، تعلو على العالم، ولكنها مع ذلك حالة في كل ركن من أركانه وكل جزء من
أجزائه. والحضرة الإلهية الكونية المسماة بالسكينا (السَّكَن) تكون بنوع خاص في
الأشخاص المقدسين وفي الأماكن والأشياء المقدسة، وفي ساعات الدرس والصلاة. لكن هذا
الإله القادر على كل شيء رغم هذا إله واحد.
وليس بين الأفكار كلها فكرة أبغض إلى
اليهودية من تعدد الآلهة، واليهود لا يفتئون يجهرون بوحدانية الله في حماسة قوية
وينددون بشرك الوثنية وبما يبدو في الثالوث المسيحي من تثليث. وهم يجهرون بهذه
الوحدانية في أشهر صلواتهم وأكثرها انتشاراً بينهم صلاة شمع يسرائيل: "اسمعي
يا اسرائيل، الله إلهنا، الله واحد" (شمع يسرائيل أدوناي إلوهينا أدوناي
أحد). وليس ثمة مكان بجواره في هيكله أو عبادته إلى مسيح، أو نبي، أو قديس. وقد
نهى أحبار اليهود الناس عن ذكر اسمه إلا في أحوال جد نادرة يقصدون بذلك أن يحولوا
بينهم وبين تدنيسه أو اتخاذه وسيلة للسحر، ولكي يتجنبوا النطق بهذا الاسم الرباعي
يهوه كانوا يذكرون بدلاً من لفظ أدوناي أي الرب، بل ويشيرون بأن يستعمل بدلاً منه
عبارات مثل: "الواحد المقدس" "الواحد الرحيم"
"السماوات" "أبينا الذي في السماء". وفي اعتقادهم أن الله
قادر على صنع المعجزات وأنه يصنعها فعلاً، وخاصة على أيدي كبار الأحبار؛ ولكن يجب
ألا يظن أن هذه المعجزات خرق لقوانين الطبيعة إذ ليس ثمة قوانين إلا إرادة الله.
وقد خلق كل شيء لغرض إلهي طيب: "فقد خلق الله القوقعة لمداواة الجرب،
والزجاجة لمداواة لسعة الزنبور، والبعوضة لمداواة عضة الأفعى، والأفعى لعلاج
الاحتقان وبين الله والإنسان صلة لا تنقطع وكل خطوة يخطوها إنما يخطوها أمام
ناظريه لا تخفي عنه، وكل عمل يعمله الإنسان أو فكرة تجول بخاطره في خلال يومه يمجد
بها الذات الإلهية أو يغضبها. والناس كلهم أبناء آدم، ولكن "الإنسان قد خلق
أولاً وله ذنب كذنب الحيوان و"كانت وجوه الناس إلى عهد أخنوخ شبيهة بوجوه
القردة. ويتكون الإنسان من جسم وروح، فروحه من عند الله، وجسمه من الأرض، والروح
تدفعه إلى الفضيلة، والجسم يدفعه إلى الخطيئة، أو لعل دوافعه الشريرة وقد أتت إليه
من الشيطان، ومن ذلك العدد الجم من الأرواح الخبيثة التي تكمن حوله في كل مكان. بيد
أن كل شر قد يكون في نهاية الأمر خيراً؛ ولولا شهوات الإنسان الأرضية لما كد
الإنسان أو تناسل. وتقول إحدى الفقرات الظريفة "تعال نعز الخير لآبائنا،
فإنهم لو لم يأثموا لما جئنا نحن إلى هذه الدنيا".
والخطيئة من فطرة الإنسان، ولكن ارتكابها ليس موروثاً، وقد قبل أحبار
اليهود عقيدة سقوط الإنسان، ولكنهم لم يقبلوا عقيدة الخطيئة الأولى ولا الكفارة
الإلهية. فالإنسان في رأيهم لا يعاقب إلا على ما ارتكبه هو من الذنوب، وإذا ما لقي
من العقاب في الحياة الدنيا أكثر مما يبدو له أن يستحقه على ذنوبه، فقد يكون ذلك
لأننا لا نعرف مقدار هذه الذنوب كلها، أو قد يكون هذا الإفراط في العقاب نعمة
كبرى، تؤهله للخير العميم في الدار الآخرة. ومن أجل هذا يجب على الإنسان كما يقول
عقيبا أن يبتهج لكثرة ما يصيبه من سوء أما الموت فقد جاء إلى الدنيا بسبب آثام
الإنسان؛ وغير الآثم بحق لا يموت أبداً. فالموت دين على البشرية الآثمة لباعت
الحياة جميعها. وهناك قصة مؤثرة عن موت الكائن مإير تقول:
بينما كان الكوهن مإير يلقي موعظته الأسبوعية عصر يوم من أيام السبت إذا
مات ولداه المحبوبان فجأة في منزله. فغطتهما أمهما بغطاء، وأبت أن تندبهما في
اليوم المقدس. ولما عاد الكوهن مإير بعد صلاة المساء سأل عن ولديه لأنه لم يرهما
في الكنيس بين المصلين، فطلبت إليه أن يتلو الهبدلة (وهي دعاء يختتم به السبت)
وقدمت له العشاء. ثم قالت له: "لدي سؤال أريد أن أسألك إياه. ائتمنني أحد
الأصدقاء في يوم من الأيام على جواهر أحفظها له، ثم أراد الآن أن يستعيدها فهل
أردها إليه؟". فأجابها الكوهن مإير "ذلك واجب عليك بلا ريب"؛
فأمسكت زوجته حينئذ بيده، وسارت به إلى الفراش ورفعت عنه الغطاء. فأخذ الكوهن مإير
ينتحب، ولكن زوجته قالت له: لقد كانا وديعة لدينا إلى حين والآن قد أراد سيدهما أن
يسترد وديعته".
ولم يقل كتاب العبرانيين المقدس إلا الشيء القليل عن خلود الثواب والعقاب،
ولكن هذه الفكرة أصبحت ذات شأن كبير في آراء الأحبار الدينية. فقد صوروا النار على
أنها جهنم! Ge Hinnom أو شاول ، وقسموها كما قسموا السماوات إلى
سبع طبقات تتدرج في درجات العذاب. ولا يدخلها من المختتنين إلا أخبثهم، وحتى
الآثمون الذين يدامون على الإثم لا يعذبون فيها إلى أبد الآبدين، بل إن "كل
من يلقون في النار يخرجون منها مرة أخرى إلا فئات ثلاثاً: الزاني، ومن يفضح غيره
أمام الناس، ومن يسب غيره". أما السماء فقد كانوا يسمونها جنة عدن Gen Edon، وكانوا
يصورونها في صورة حديقة تحوي جميع المسرات الجسمية والروحية. فخمرها عصرت من كروم
احتفظ بها من الستة أيام التي خلق فيها العالم، والهواء فيها معطر بالروائح
الزكية، والله نفسه يجتمع بالناجين من العذاب في وليمة أعظم ما يسر أصحابها أن
يروا وجهه. بيد أن بعض أحبار اليهود يعترفون بأن أحداً لا يعرف قط ما وراء القبر.
وإذا ما فكر اليهود في النجاة كان تفكيرهم فيها أنها نجاة الشعب لا نجاة
الفرد. وذلك أنهم وقد شتتوا في أنحاء العالم بضروب من القسوة لا يبررها في ظنهم
عقل، وأخذوا يقوون أنفسهم باعتقادهم أنهم لا يزالون شعب الله المحبوب المختار، فهو
أبوهم، وهو إله عادل، ولا يمكن أن ينكث عهده لإسرائيل. أليسوا هم الذين أنزل عليهم
كتابه المقدس الذي يؤمن به المسيحيون والمسلمون ويعظمونه؟ وقد دفعتهم شدة يأسهم
إلى درجة من الكبرياء اضطر معه أحبارهم الذين سموا بهم إلى تلك الدرجة أن ينزلوا
بهم عنها بضروب اللوم والتأنيب. وكانوا في ذلك الوقت كما هم الآن يتوقون إلى البلد
الذي نشأت فيه أمتهم، وكانوا يعزونها ويرون أنها المثل الأعلى لجميع البلدان،
ويقولون "إن من يمشي أربع أذرع في فلسطين يعيش بلا ريب إلى أبد الآبدين، ومن
يعش في فلسطين يطهر من الذنوب". وحديث من يسكنون فلسطين في حد ذاته
توراة"، وأهم قسم في الصلوات اليومية وهو الشمونة عسراً (الفقرات الثمان
عشرة) تحوي دعاء بمجيء ابن داود، الملك المسيح الذي يجعل اليهود كما كانوا أمة
متحدة، حرة، يعبدون الله في هيكلهم بشعائرهم وترانيمهم القديمة.
يتبع- الشعائر الدينية عند اليهود
محمد الطحيني