___( قنديل ام هاشم)___يحيى حقى
_ والصراع بين الحضارة والتخلف والعلم والدين_
_________________________________
قد يُخَلِّد عملٌ أدبىٌّ واحدٌ صاحبَه مدى
الدهر،إذا تناول هذا العمل قضية فكرية تتلاءم وكل العصور
..وقضية صراع الحضارات
..العلم والدين..قضية
أزلية أبدية ،كانت
ولاتزال.
_وأيضاً إذا تم تناول
مثل هذه القضية أديبٌ أريب
يستطيع أن يضع النقط
على الحروف ،ويعالجها
بفكر متعمّق ،ولديه
تصوُّرٌ واعٍ فى إيجاد حلول لأطروحاته بموضوعية..وقادرٌ على التأثير فى
القارئ الذى هو طرفٌ
أصيل فى القضية.
_الأسلوب..الوعى..
الرمزية..الواقعية..الثقافة المُتَمكِّنة ،جعلت (يحيى حقى)نموذجاً رائعاً لكتابة
القصة،لاسيّما
قصته(قنديل ام هاشم)التى تصاحبنا
بأفكارها المتجاوزة
حدود الزمان والمكان .
((اسماعيل شاب مصرى من
أسرة متوسطة الحال
ريفى الأصل ،لكنه نشأ
فى القاهرة فى حىّ السيدة زينب مطلع القرن العشرين،يرسله أبوه التاجر البسيط ليدرس
الطٌِب
فى أوربّا،وكانت له
ابنة عمّ يتيمة تربَّت معه ونُذِرَت
زوجةً له عندما يصل سنّ
الزواج،واسمها"فاطمة
النبوية"،وكانت
كلمة "بلاد برَّه"حين تقرَّر سفره لانجلترا ،ترِنّ رنيناً غريباً فى
البيت الذى لا تنقطع
فيه تلاوة القرآن ،وحيث
الشرع هو الحق والعلم
جميعاً.ويصف اسماعيل
وهو يصعد سلَّم الباخرة
المُتّجهه لأوربا،بأنه
شابٌّ عليه وقار الشيوخ،بطئ
الحركة،غرير
النظرة،أكرش ،ساذج ...عندما يصل
يُسَلّم نفسه
ل(مارى)الإنجليزية،وزميلته فى
الدراسة..وكانت روح
اسماعيل تتأوّه تحت ضربات مِعولها..ويبلغ تعليم الشاب الشرقى مُنتهاه حين
يطرح الاعتقاد فى الدين
ويستبدله إيماناً أشد وأقوى بالعلم،لايُفكّر فى نعيم الجنة،بل فى بهاء الطبيعة
وأسرارها إلى أن يجلس بين يدى(مارى)
جلسة المريد أمام القطب،بل
جلسة الزميل إلى زميله.وبعد أن أتَمَّ تعليمه،عاد إلى مصر حاملاً
شهادةً فى طب
العيون،فيصدمه الواقع المظلم
ويجد (فاطمة
النبوية)_ابنة عمّه وزوجته
المنتظرة_معصوبةَ
العينين على وشك العمى الكامل
بفضل العلاج الشعبى
،ويدهشه أن يرى أمًه تقطُر
فى عينيها "زيت
قنديل أم هاشم"فيفقد صوابه ويقذف قارورة الزيت من النافذة،ويخرج فى حالة
هيجان،وتقوده خُطاه إلى
ضريح "ام هاشم"يقف
أمام القنديل المُتدلّى
أعلى الضريح،فلايرى إلا دخانا لابصيص ضوء،وحول المقام أُناس كالخُشب المُسنّدة
كالمشلولين متشبِّثين
بالأسوار،فينهال على القنديل ضرباً بعصا فى يده،فيِهشّمه تهشيماً،وينهال عليه
الحضور عليه ضرباً
وركلاً ،لولاةأنقذه خادم المقام
الذى كان يعرفه،والذى
قال للناس أنه"مريوح"
أى ركبته روح
خبيثة.ويشرع فى علاج فاطمة
طبقاً لأحدث ماتعلَّم
فى أوربا،إلاً أنه يفشل وينطفئ آخر بصيص
فى عينيها،فيهيم على وجهه فى طرقات القاهرة،ويعتزل أسرته،وقد سقط فى قاع
الحيرة،وتراوده تساؤلات
وشكوك حول النموذج
الأوربى ،وتبدأ عاطفته
نحو أهل بلده فى محنتهم الحضارية تبدأ فى التحرّك ،مع "ليلة القدر" حيث
تهيج نفسه معها ،ويذهب هذه
المرّة لمقام السيدة زينب ،ويُخيّل إليه القنديل هذه المرة وهو يُضيئ ويومئةإليه ويبتسم ،ويقول
لخادم المقام "ليلة مباركة ياشيخ درديرى"ويدرك أنّه:"لاعلم بلا
إيمان".
____________
نُشرت هذه القصة عام
١٩٤٤م،فى وقت كانت الأُمّةُ
فيه فى مُفتَرق طُرُق
حضارى..فى لحظة مشحونة يتقوّض فيها نظام عالمى قديم ويولد نظام جديد مع دخول الحرب
العالمية الثانية طورها الأخير...
وموضوع القصة هو:الصدام
الحضارى بين الشرق والغرب..وهو موضوع شغل المثقفين العرب فى ذلك الحين وبعده .
_كان هيكل القصة عند
(حقى)بسيط البناء،قليل الأحداث،لكنها كانت أحداث مشحونة
بالتوتُّر..بالرمزية..مُلخصها:"عودة (اسماعيل)ابن التاجر البسيط من دراسته
لطب العيون فى أوربا،
بأفكار جديدة ونظرة
حضارية جديدة تصطدم ببيئة قديمة يرفضها فى قسوة وتعالٍ،فترفضه بيئته هى
الأخرى،فيمُر بأزمة
روحية وحيرة فكرية تنتهى لضربٍ من التصالح مع الذات والمجتمع ،بالتوفيق
بين القديم والعريق
الأصيل والمُستجلَب ..بين الذات
والآخر..بين الدين
والعلم..."لاعلم بلا إيمان"..هكذا
طرح(حقى)الحل الأمثل.
_الرمزية فى القصة كان
لها دلالاتها وأبعادها،حتى فى اختيار الأسماء(اسماعيل_فاطمة النبوية"ابنة
عمه"_مارى"الإنجليزية")..ف(اسماعيل)تأكيداً
لجذوره الممتدة فى عُمق
التاريخ،وهو اسم نبوى قرآنى،لإبراز البُعد الإسلامي أيضاً،ويرمز
ل"الشرق" ....و(فاطمة النبوية)اسمٌ آخر له إيحاءات دينية واضحة ،ورمز
لمصر الجاهلة الغارقة
فى الخرافة والجهل المُصابة
بداءٍ فى العين يقودها
نحو العمَى ..و(مارى)زميلته الإنجليزية"رمز للغرب والحضارة الغربية
المسيحية"
وهو اسم أُم السيد
المسيح،لذا رمز للذات الغربية بإمرأة.
_من هذا التركيز
تشكَّلت الملامح الرئيسية للقصة
التى زادت على خمسين صفحة بقليل،فاختزل
الترميز مايمكن أن يقال
فى صفحات كثيرة بتقنية رائعة جسّد من خلالها المعنى المُراد دون إسهاب،
وجعل الموضوع فى تركيز
شديد يحمل توتّرات وانفعالات ومواقف وحيرة وحلول.
_فحين تناول (حىّ
السيدة زينب)تناول واقعاً من خلال تجسيده للمكان ليصف مدى التصادم الحضارى من خلال
هذا الواقع،فيصف الحىّ بالفقر والمرض والقذارة،وحالة أهله من رضا وقناعة بهذا
الواقع،وكأنهم لا يشعرون بما هُم فيه ،وليس ذلك إلًا وهماً ناتجاً عن القدرية
والاستسلام والتواكل،
وكأنهم يعيشون خارج
الزمن فى وصفه لهم:"ثمارٌ سقطت من شجرة الحياة فتعفَّنت فى كنفها"..وفى
أوربا العلمية العلمانية الزمانُ فى صيرورة دائمة
والتاريخ لايعرف
التوقُّف .وأبدع ماقال عن علاقته
الجنسية بينه وبين مارى
بإيحاءات رمزية أيضاً،
قوله:"عندما وهبته
نفسها ،كانت هى التى فضَّت
براءته
العذراء"تلك العلاقة العكسية..والتى قصد من
ورائها :أنّ الحضارة
الغربية،هى الحضارة الفاعلة،
الفاضّة لغشاوة الجهل
والخرافة،بينما الحضارة الشرقية فى موقف التلقِّى والاستسلام'حتى طرح
الاعتقاد فى الدين
واستبداله بالعلم.
_لكنه حينما عاد ولم
يستطع بعلمه الذى تلقّاه من
العلاج،اكتشف سرّ العجز
"لا علم بلا إيمان"..ليكون
ذلك هو الحل الأمثل..حل
التوافق،وأن الطير لكى
يحفظ توازنه لابد له من
جناحين،وإلا سقط.
____________
*هكذا استطاع (يحيى
حقى)أن يقدم القصة النموذج من خلال طرح رائع ... موضوعاً وأسلوباً
وحلولاً ،وأن يُشهدنا
أن القصة فكرة ،يطرحها الأديب ليمارس من خلالها قدرة الأُدباء على التغيير
والتوجيه ووضع الخطط
والحلول،مما يساعد فى نهضة حقيقية تقود البلاد نحو النور.
____تحياتى(حامد حبيب)
١٩_٣_٢٠٢١م