قراءة في قصة ( سكون العاصفة ) للكاتب العراقي جاسم خلف فلحي. بقلم / مجدي جعفر
قراءة في قصة ( سكون العاصفة )
للكاتب العراقي جاسم خلف فلحي.
بقلم / مجدي جعفر_مصر
¶| مؤتمر"ملتقى النقد الأدبي العالمي¶|
_ اليوم الخامس (٢٥يناير ٢٠٢٣م)
-----------------------------------
قراءة في قصة ( سكون العاصفة )
للكاتب العراقي جاسم خلف فلحي.
بقلم / مجدي جعفر_مصر
..........
قصة ( سكون العاصفة ) للكاتب العراقي جاسم خلف فلحي، من القصص الجياد،
وتؤكد على نضج القصة العربية وتألقها، وتؤكد أيضا على قدرة الكاتب العربي على
الالتقاط الذكي والقبض على حالة إنسانية نادرة في لحظة استثنائية فارقة، والغوص
داخل النفس البشرية وسبر غورها واستكناه جوهرها، وتقديم حالة من حالاتها، فالنفس
البشرية بعواصفها وسكونها تنطوي على أحوال غريبة وعجيبة، والكاتب الموهوب هو
القادر على الإمساك بطور من أطوار تلك النفس البشرية، وأحسب أن كاتبنا من
الموهوبين الذين لا يقفون عند حدود السطح، ولكنه يبلغ الطوايا والأعماق.
بوصف ماتع وبديع، وبلغة تصويرية شديدة الثراء تؤكد قدرة الكاتب وتمكنه من
اللغة، وتهيأ القارئ للولوج إلى أجواء النص، في جُمل قليلة يصف أحوال العاصفة قبل
أن تسكن، ويستعير بمهارة أحوال العاصفة وتقلباتها في الخارج ليسقطها على الداخل،
فتتناثر في الجمل الوصفية الاستهلالية بعض الكلمات مثل : الليل ووحشته، وجنوده
وقسوتهم، والصمت، والخوف، والقلق، والترقب، والمجهول، والريح العاتية، والوحوش
المفترسة، والصرخات المدوية، والرعب الذي يجتاح القلوب، وغيرها أيضا من الكلمات
القريبة منها والتي تشكل لحمة النص.
والعاصفة في الداخل أكثر منها في الخارج، فهي تهب داخل النفس البشرية.
ويقدم لنا الكاتب حالة رجل غريب الأطوار، فحاله في النهار يختلف عن حاله في
الليل، فهو من رجال الليل، ودائما في محاورة هامسة مع ذلك الليل الذي يألفه، هذا
الرجل يصر أن يصطحب معه الطفل بعد الانتهاء من مراسم الدفن والعزاء لوالديه الذين
افترستهما الذئاب وهما في الطريق لزيارة أقربائهما، فهو الأولى باحتضانه وتربيته مع
اطفاله، فبزعمه أنه من أقربائه، ولم يجد الجيران بُدا من تسليمه الطفل.
وقد وفر الكاتب حبكة جيدة لقصته، واستخدم خاصية التشويق التي نفتقدها في
الكثير من القصص الحديثة، فالكاتب لا يقدم المعلومات عن الشخصية دفعة واحدة، ولكنه
يوزعها على مدار الصفحات، وكلما تقدم الفارئ في القراءة يكتشف الجديد والمدهش،
والاكتشاف احيانا يأتي على لسان الطفل وبعينه، فالرجل غريب الاطوار لا أطفال لديه
ولا يحزنون ( فهذا الرجل يعيش وحيدا. لا زوجة عنده ولا أبناء ).
ويرصد الطفل تغير أحوال الرجل بعد استقراره في داره ( حتى ملامحه بدت مخبفة
وصلبة ).
وهذا التحول يربك الطفل ويقلقه، ويربك القارئ أيضا ويقلقه، ويروح يبحث مع
الطفل عن إجابات لهذه السؤال القلق، يبحث عن الأسباب والدواعي التي جعلت الرجل
يكذب ويصر على اصطحابه معه إلى منزله الطيني المتهالك.
وإذا كانت الرواية قائمة على السرد، فإن القصة القصيرة قائمة على الوصف،
وكاتبنا كما يبدو من النص من الوصافين الكبار :
( .. وزأرت الريح حتى كادت تدفع السقف لتلك الغرفة الطينية من مكانه. ودخلت
عليه من طريق يجهله. أحس برهبة وخوف قد احتواه. وبدا السراج خافتا ومهزوزا وسرعان
ما انطفأ فأطبق كل شيء بالغرفة عليه وكان متوقفا عن أية حركة. شعر أن لا عضو بجسده
حرا. )
إذا كان هذا حال الطفل وهو في كنف الرجل غريب الأطوار، فانظر إلى حاله أيضا
وهو يستعيد نتفا من حياته مع والديه :
( لقد كانت أمه تحميه وتحتضنه بحنان فياض بل أن والده طالما يقف قربه كأنه
يدافع عنه ضد كل من يحاول الاقتراب منه. وكان ينام ملء جفنيه. لا يخشى شيئا. أنما
كان يهزأ من الريح وصريرها )
ويخلق الكاتب بهذين الصورتين حالة من التعاطف مع الطفل، الذي بات منكسرا
وخائفا، هل خاب ظنه بالرجل أم لم يزل يحدوه الأمل في دخوله عليه ليحنو عليه ويرفق
به ويبث الطمأنينة في نفسه؟
( .. الرجل من خلف النافذة ينظر إليه وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة وفي عينيه
نظرة الظفر والشماتة )
وتبدأ لحظة الاكتشاف الكبرى التي يميط فيها الكاتب اللثام عن الأسباب
والدواعي التي جعلت الرجل يحتال ليصطحب الولد معه، ويفتح غرفة الأسرار المدفونة في
نفسه، ويعلنها للقارئ ليحاول ايجاد المبررات لسلوكه الغريب، فالرجل الذي على مشارف
الجنون تحركه شهوتي الحب والانتقام، فلماذا ينتقم من الطفل؟
( كان يوما ما عاشقا لأمه، يحبها بجنون. يطاردها في كل مكان. ربما كان
يتابعها وهي ذاهبة مع والديها إلى الحقل. فكان يلحظ أثر قدميها على الأرض وحين
يبتعدون يهبط على ذلك الأثر يمطره قبلات
كثيرة. )
وبلغ عشقه لأم الطفل مداه :
( ذات يوم تجرأ واقترب من الدار
عندما رأى بعض ثيابها معلقة على حبل متهرئ فتناول على عجل ثوبا من تلك الثياب
وأخذه ليحتقظ به. كان يضعه على وجهه حين ينام. يشمه طويلا بكل رغبة وحب. لقد كان
متيما بها تماما. لا يفعل أي شيء أو يعمل. سوى النظر إليها والتفكير بها. )
وهنا يقدم لنا الكاتب قصة حب تختلف عن قصص الحب المعروفة،
وربما قصة هذا العاشق المجنون، تجعل القارئ يستعيد قصص العاشقين المشهورين
عربيا وعالميا، ويحاول أن يقارن بينها وبين تلك القصص، ويقيس مدى التشابه
والاختلاف، وهل يمكن أن تجد لنفسها مكانا بين تلك القصص ويُكتب لها الذيوع
والانتشار مثل روميو وجوليت، وقيس وليلى، وأنطونيو وكليوباترا، وعنتر وعبلة،
وباريس وهيلن، ونابليون وجوزفين، وجميل وبثينة، وكثير وعزة، وفيس ولبنى، وتوبة
وليلى الأخيلية، وأبو نواس وجنان، وابن زيدون وولادة بنت المستكفي، وغيرها من
عشرات القصص التي وصلت إلينا عبر الأزمان والعصور.
كل هذه القصص التي أوردناها، جمع الحب بين قلبين، وتبادلا العشق والهوى،
أما بطل هذه القصة كان الحب والهيام من طرف واحد، فلم تبادله أم الطفل الحب بحب
والهوى بهوى، فعندما علم أهله بعشقه لها وهيامه بها، تقدموا لأهلها لطلب يدها،
ولكنها رفضته بشده، فصار حزينا مكتئبا، وعافت نفسه النساء، ورفض الزواج، وتزوجت من
غيره عن قناعة، وانجبت هذا الطفل، وعاشت حياتها مع زوجها وابنها في سعادة ورضى،
فكانت ردة فعله : ( ومنذ ذلك الحين كان يضمر العداء. يتحين الفرص للإيقاع بها.
فوجد ذلك مناسبا من الابن الضائع في الحيرة والذهول والترقب )
إذن شهوة الانتقام هي التي حركته، وكانت الغلبة لنوازع الشر لديه، ومثل هذا
النموذج يستحق وصف الكاتب له بالمعتوه، ويحسب للكاتب أنه قدم نموذجا خليق بأن يوضع
تحت مجهر التحليل النفسي.
وأرجو أن أكون قد نثرت ولو قليل من قطرات الضوء حول هذه القصة البديعة
والماتعة، والتي تستحق أكثر من قراءة لتكشف عن كل أسرارها وخباياها، فمثل هذه
القصص لا تهب نفسها للمتلقي من القراءة الأولى، وخالص تحيتي ومحبتي وتقديري
للكاتب.