المعالجة البنائية بالأسطورة الإغريقية / (ثيسيوس) نموذجا
================================
العقيد بن دحو
* - " أيتها اللغة العزيزة ! أيمكن أن لا أسمع يونانيا يوجه إليّ هذا الحديث إلا بعد هذا الزمن الطويل , لماذا يا بني أرسيت سفينتك عند هذه الجزيرة ! أي ضرورة و أي خطة , أي ريح مواتية دفعتك اليها ؟ أنبئني بهذا كله لأعلم من أنت.
(فيلوكتيت) / صوفوكل.
كم تبدو هذه العبارة غريبة وبعيدة عن بطلنا اليوم (ثيسيوس) , العبارة للبطل الاغريقي( فيلوكتيت ) والقصة معروفة لنفس الشاعر الدرامي التراجيدي المأسوي.
تكاد تتكرر هذه العبارة وعبارات أخرى بنصوص اغريقية مختلفة لنفس الشاعر او لشعراء أخرين يختلفون معه باللغة والأسلوب والتوجه الشامل بالزمكان والمذهب او المدرسة الأدبية ايضا.
مرد كل ذلك كون الأدب الاغريقي يبنى بالتراكم , إذ يشير النقاد يستحيل على مبدع واحد يكون قد ابدع كل هذه الروائع الكونية.
ثيسيوس , كسائر الأثار الإغريقية كاتبها وقارئها رجل سعيد كما يقول النقاد المفكرون , ساعة ما يذكرلهم البطل تذكر بالمقابل (اريادني) ويذكر الكائن الخرافي الذي نصفه رجل ونصقه الباقي ثور ( المونيتور) !.
تذكر اللغة كما هي عند افلاطون وسيلة وليست غاية. تأنيث اللغة ومن حيث الأسلوب هو الرجل. من حيث اللغة وعاء الفكر وجهازا للتفكير كما هو للتكفير كما هو للتغيير كما هو للتطهير - ما افلاطون سوى موسى يتحدث اللغة الاغريقية الفصحى - لا يسمح فيها بهجو ولا سفور ولا اسفاف ولا سقوط , لغة الشعر وعظمة الشخصية وأشباه الألهة و الألهة بالمرة.
حتى يتسنى ادراك اسطورة او عقدة (ثيوسيوس) لا بد ان تخضع لعذة معالجات ولا سيما البنائية , التي تبنى بالإضافات ووفق الوسيط وثنائية القطبين المتضادين معا.
الأسطورة ميراثا /
تبدو الكلمات متكررة.... ريح...سفينة...انبئني....الزمن الطويل...الظروف.
كلمات متكررة في رحم الزمن , اذ كل كلمة تحف قصيدة شعرية متجمدة , كل كلمة من ثيسيوس تحمل حقيقة ميثولوجية تاريخية تعيد نفسها بإستمرار مرة في شكل مأساة و أخرى ايضا في شكل مأساة ايضا.
تبدو الكلمات اصواتا قادمة من زمن سحيق متعددة تصب في سمع واحد .
وكما كان ثيسيوس في حاجة إلى أوديب كمثوى أخير وكخلاص أخير. تشهد جميع الأبطال - بقصد او بغير قصد - مصيرا مشتركا واحدا. جعلها الشاعر الدرامي التراجيدي صوفوكل تكمل بعضها بعضا وفي حاجة الى بعضها بعضا تآزرا وتعاضدا وتضامنا , ليس عطفا وعاطفة وانما واجبا انسانيا قوميا وطنيا لا يقل على الذوذ عن البلاد والعباد.
ضمن معالجات بنائية مرصوصة , قد تمسها بعض الشطط لكن سرعان ما تجدها متماسكة تكمل بعضها بعضا ببناء المعبد والمصلى الأدبي العام.
ليست وحدة فقط , انما متعددة عبر كل العصور , ولا سيما عصرنا هذا الذي اثقله منطقه.
إذ اصبح الحلم الاغريقي وافعا ملموسا متجسدا بإيقونات الأجهزة الذكية , التي اصبح اليوم فك شفرة لغزها ممكنا دون اقتراف محظورات ما , مما اضحى الحكم والتحكم الإلكتروني من السهل بمكان.
توشيات وطوطم , توشيات وملامس ومجسات مرتبطة بلغة ذات حروف من لغة اخرى غريبة ذات رموز طلاسم وتعاويذ وارقام ما قبل العد والحساب , يوم كان البدائي ينقط لحسبانه وحساباته المالية وممتلكاته الطبيعية....
وكما اختلف العديد من المفكرين في تفسير ثيوسيوس حسب اختصاصاته واهتماماته العلمية والأدبية , وحسب مدرسته ومذهبة وبياناته الفنية .
تماما كما يفسر فريود اللغة او تلافيف متاهة جزيرة كريت :
على أنها تمثل ولادة شرجية: فالمسالك الملتوية هي الأحشاء , وخيط اريادني هو الحبل السري. لكنه لم يقل لنا ماذا يمثل ( المونيتور) !؟
فهم السؤال ونصف الفهم ان لم يكن الفهم كله , لكن بالمقابل الأساطير والعقد لم توضع للفهم انما للتفاهم والاتصال بين ما يمكن ادراكه وما لا يمكن ادراكه عموما لغة واسلوبا.
ان وضعنا ثيسيوس في حالة (ثيسيوسية) كما وضع النقاد هاملت عند تشكسبير في حالة هاملتية , عندما يكون المسرح داخل المسرح , ايضا فكرة الثيسيوسية تخضع لمعالجة وحدة المصير المشترك , الأسلوب البنائي في تحليل اسباب الداء (...) !.
تحليل الأسطورة قصد التميز بين أسلوب التطور التاريخي Diachcronique واسلوب التطور المتوافق زمنيا synchronique
وبين (التطورية) و (التزامنية) جاءت المعالجة لتظهر كل لحظة من الزمن , يمكن أن تنظم الى العناصر المكونة لها , وكل واحد من هذه العناصر لايدرك تماما إلا ضمن شروط ما يبقيه الخاص به.
عن بعضها البعض.
الأسطورة الاغريقية ميراث الفنون بالأمس واليوم وغدا لا يطالها زمان ولا مكان , نفي جميع الوحدات والقوالب الجاهزة الستاتيكية الأرسطية. المكون الأساسي الذي ينبعث منه الأدب سيكولوجيا وسوسيولوجيا وأنثربولوجيا في مجرى الزمن والتاريخ.
أن القول (المونيتور) هو امتزاج البهيمية والقوة والنبل في النفس البشرية...بدت فكرة مركبة بدورها تحتاج الى فكرة أخرى وفق نظرية الأفكار المتداخلة. كون الانسان بالأول والأخير ليس ملاكا وليس شيطانا بالمرة , أي ليس كله شر وليس كله خير , ولو أن ( هزيود) يقول : " معظم الناس أشرار , ومن يفعل الشر بالأخرين يفعل الشر بنفسه أولا " !.
(العيش معا بسلام) /
العيش معا بسلام او (سنيويكيسموس) بدوره اسم مركب ناتج عن توحيد او انضمام البلدة (اتيكا) الى (اثينا ) الأم .لتتخذ اللغة سلوكها النبيل , حين يصير الشاعر بمقام الملك او الكاهن الأعظم , صانع رموز وطقوس , يصير النص الدرامي الشعري يتحكم الى العدالة الشعرية والى القانون الفني , من حيث القانون لا يكون مناهضا للعدالة الشعرية , وهل الجريمة تفيد !؟
ولأن ( المونيتور) شخصية مركبة نصفه انسان ونصفه الأخر ثور , تسلك اللغة نفس المصير بين البشر والحيوان , بل الغالب ان يصبح النص بدوره وحشا كاسرا طاحنا يطحن ويكسر البشر طحنا , يجعل الجمهور تحت رحمة المأساة الى ان يتطهر كلية من ادران انفعالات النفس.
اما الظاهرة (ثيوسيوية) تم تكيف اللغة وتخندقها مع المموهين , ومنحها اغراض ووسائل هندسية بالبدء ولوجستية ما منح لمتاهة جزيرة كريت الصفة الديدالوسية , نسبة الى ديدالوس المهندس الاغريقي بنى متاهة جزيرة كريت حيثسجن المونيتور. ثم سجن هو نفسه فيها بأمر من مينوس. لكنه تمكن من الفرار, اذ صنع لنفسه جناحين من ريش لصقهما بالشمع. واصطحب معه ابنه في طيرانه ابنه ايكار. وحين حلقا واقتربا من الشمس فذاب الشمع وسقطا بالبحر. مجموعة الصيّغ...ايحاءات...ايماءات.. ومعاني أخرى بما يغني اللغة الشعرية لغة واسلوبا.
بالمقابل شكك النقاد بأن ثيوسيوس لم يقتل المونيتور , انما المونيتور انتحر حتى اذا ما كان لكل حدث حديث , ولكل حالة لغتها الخاصة , حدث ( المتاهة والمونيتور) يقابله حديث ثيسيوس بتوافق.
يرى (امرسون) عن اللغة اعتبارها شعرا متحجرا , اذ كل كلمة منها تخفي قصيدة متجمدة , وعلى اعتبار الاسطورة عقدة. يعتبرونها عنصر بنائي في الأدب , لأن الأدب ككل اسطورة منحوثة. وعلى هذا الاعتبار , فإن أي عنصر لغوي منفرد لا يمكن أن يوجد بمعزل عن غيره , ذلك لأن هويته تنفرد بالمجموعة التي تحتويه , وهو يحافظ على تلك الهوية بالوقوف موقف المعارض للعناصر المجاورة الأخرى.
ان اعادة تعريف علم المنطق مكنت من فكرة التطور التاريخي ومن دراسة علم الأصوات ليفصلوا التاريخي عن الأسلوب.
لنعش بسلام احسن شعار اغريقي قديم بروبجندي سياسي , مكنت بدورها ليس من توحيد مدينتين (ايتاكا - أثينا) انما وحدة القيّم و(وحدة الأفكار) .
ان أهمية تطبيق ( وحدة الأفكار ) في تطورية تاريخية الأفكار بزيادة وحدات اليوم مناوئا لها والمبني على التعرف على ترافق وتوافق المعارف.
غير اللابنائيون يتناولون اسطورة ( ثيسيوس ) بشكل مقارن , ثيسيوس سيرة ذاتية بطل ورد اسمه بإليادة هوميروس وايضا بالقصة الدرامية للشاعر الدرامي صوفوكل في مسرحية (أوديب في كولونا) , يشبه من حيث الشكل أوديب ملكا , لكنه لم يقتل أبا ولم يتزوج أما , انما عمل على قتل (المونيتور ) وخلص المدينة من جور وطلم القرابين , بقدر ما قتل أوديب ملكا ( الهولة او السفانكس). ومن حيث المضمون يشبه الكاهن الأعظم (تريسياس) او (هيمون) - تشابه مع القارق - طبعا. بحيث يمكن العثور على موازنات لها في حضارات أخرى او نفس الحضارة مع الاختلاف بالرؤى مع كاتب أخر او مع جنس أدبي اخر او بطابع واخراج اخر من التراجيدي الى الكوميدي والعكس . او كما هي عند (شو) او عند (فريود) او (يانك) او (سبنر) او ( جان جاك روسو) او (جان أويل) حينما يعالجون سيرة ثيسيوس بعدة أوجه مختلفة لعنوان واحد , حديث بألف صوت.
اللابنائي غير ملزم بالبحث عن الشبهات او ما يقارب بين الكلمات والعتاصر ومختلف الصوّر وأناشيد الجوقة او الكورس او رئيسها.
اما البنائي فيصر على كل حال , على تناول اسطورة ثيسيوس واسطورة (أوديبوس) او أوديب ملكا , او أوديب والهولة او أوديب في كولونا , او ثيسيوس والمونيتور فرديا او مزدوجا , عنصر بسيط او عنصر مركب , كما هو بذاته ا كما هو مع سائر مجموعة العناصر الأخرى. على اعتبارهما وحدتي تزامن ضمن المجموع الثنائي او الثلاثي او أقل او اكثر من ذلك. في سعيهم التشخيص المتشابه ككل.بدلا من تجميع المتشابهات من اجزاء قائمة بذواتها تؤدي بهم بالنهاية الى مجموعة واسعة من الأصوات ذات الأصداء العميقة التي تملأ الكهوف والأخاديد والسهوب والأودية والقمم والهضاب والشعاب والفجاج العميقة.
يقول (ليفي شتراوس) : " ان الوحدات الصحيحة التي تتألف منها الأسطورة ليست العلائق المنعزلة , بل من تلك العلائق , الشكل الحزمي لهذه العلائق هو الوحيد الذي يمكن استخدامه وجمعه حتى ينتج عنه معنى ( الولادة) " . عند ثيسيوس وغيره , الشرجية الفيزيولوجية او الابداعية الأنثربولوجية او غيرها من الولادات الأخرى.......!.
مهما يكن اذا ما اعتبرنا المونيتور لكل مجموعةاذا ما اعتبرناه نصا ادبيا مستقلا , فإن جوهر النص يؤلف كلاّ بنائيا , ولعل المعنى المزعوم لهذا الكل يكون مدعاة اندهاشا وهائلا ومهولا ومذهلا لأولئك الذين اعتادوا استخلاص المعاني ( الفونيتيكية).
(أفروديت ) لجميع الناس /
افروديت : ابنة (زوس) من (ديوني).الهة الحب والجمال عند الاغريق. يقال انها ولدت من زبد البحر. تقابلها فينوس عند الرومان , واستارتا عند الفينيقيين.
افروديت لجميع الناس (بانيموس) انشاء عبادة الإله (افروديت) , لذا عندما نظر (لينج) الى ثيسيوس , تبيّن له كيف يمكن ان يجزئها الى مجموعات ثنائية التضاد من أثر الفعل الدرامي ونقيضه بجل المآسي الإغريقية , آدم, لكل مجموعة رتبتها التوسطية , مثلما السماء وسيطة بين الماء الذي يعلو الفلك والماء الذي تحته , مثلما هي حواء وسيطة بين آدم والانسان والحيوان بالعديد من القصص الدرامية الكلاسيكية التقليدية. ومثلما هو المونيتور وسيط بين الرجل والثور , ومثلما هو الأثر داته وسيط بين الشاعر الدرامي والجمهور , ومثلما هي القرابين وسيطة بين الإله والبشر , مثلما هي افروديت الإله وسيطة بين الحب والجمال , بين زبد البحر التي وولدت منه حسب الاسطورة وبوسيدون اله بالبحر بالمرة .
البنائي رجل محظوظ فهو سريعا ما يصل الى نتائج ,كون موازنة كونية تحدث بين أوديب يقتل السفينكس وثيسيوس يقتل ( المونيتور).
يعترف ليج قائلا : أن السفينكس او الهولة قد انتحر وايضا الثور الرجل المونيتور.
ومع ذلك يعترف في سياق اخر أن أوديب ينقذ (بوزايدون) إله البحر من هيديز مملكة الأموات , يحطم المحظورات . لنفس الأسباب يفقد ثيسيوس (اريادني)...., يفقد هيمون أونتجون...تفقد إلكترا والدها أجاممنون وتخسر نفسها الى الأبد. السبب الذي يمنعه الإلتفات الى الوراء , للنظر اليها حتى يغادر هيديز , هو نفس الفشل الذي قاد (أورفيوس) الفتى الشاب الجميل الموسيقي الذي كان يحرك الحجر والشجر والبشر بموسيقاه , عند موت زوجته (بوزيدايي) سمح له بإعادته من هيديز الى الأرض شريطة ألا يلتفت إليها وهما في الطريق , ولكنه فشل. ثم قتلته امرأة (تراشيه) أغضبها نواحه المر الشديد على فقد زوجته.
ليجد (ليج) اسطورة أوديب وكذا السيرة الذاتية لثيسيوس مثخنة ومثقلة بالنقائض المزدوجة.
كان لابد من تعيين وسيط , ثم نبحث عن الأقطاب التي يتجه اليها الوسيط. المغناطيس ذي الجسم الواحد بقطبيه المختلفين...القطب الشمالي والقطب الجنوبي (s) , اذ أن هذين القطبين يختلفان بقدر ما يتشابهان.ينفصلان بقدر ما يتصلان. يتنافران بقدر ما يتجاذبان. يؤثر الواحد منهما الأخر من أجل أن يتأثر به.
الوحوش المركبة , تحقق الدعاوي المعاكسة كذلك وبالمثل تفعل (بندورا) : المرأة الأولى التي أرسلت الى الأرض عفابا على قيام بروميثوس بسرقة النار , فجلبت معها صندوقا كان يحتوي على جميع الأمراض. ولما فتحته انتشرت الأمراض ارجاء الأرض ولم يبق فيه غير ( الأمل) الذي كان بقعر الصندوق ! بندورا الشر الجميل كما يطيب أن يسميها نقاد ودارسي وقراء الميثولوجيات الاغريقي رومانية.
ان في تحليل البنائيين انصار التأويل الدائري شيئا من الإرباك , اذ يبدو الوصايا الصنمية التي يكتنفها الباحث في الأسطورة ناشئة من الفرضية الثنائية التي يبررها كي يفسرها. عندما يكون غرض الأسطورة هو ايجاد نموذج منطقي قادر على قهر التناقض. لعل ذلك يشبه محاولة ثيسيوس في كولونا او أوديب في كولونا نيابة عن ثيسيوس. التوفيق بين المحتوم والإرادة الخيّرة وفي نفس الوقت التعارض بين الطبيعة والحضارة . ومع هذا لواالرجل والمونيتوفرضا الأسطورة تسعى الى التوسط بين التناقضات في الخبرة الانسانية , فمن المحتم أن تجد نصف المعلومات عن الأساطير في افادات ناقصة , وحلول وسط , الرجل والثور , والثور الرجل , ذكر وانثى او خنثى !
ان منطق الأسطورة - ان كان لها منطق اصلا - يكمن بالثلاثية الهيكلية الزائفة والموضوعة ونقيض الموضوعة , ومركب الموضوعة. اذ يحاول النقاد أن يؤكدوا على ( ثنائية التضاد). أمر حوهري واصل بالذات البشرية وبالتفكير البشري. لقد تمكن النقاد والباحثين بعد وقت طويل الفصل بين الشعر والأدب والأسطورة , الشعر الذي يمكن أن يترجم والأسطورة التي لا يمكن أن تترجم أيضا.
إلا أننا ومع (أوديب في كولونا) أصل وفصل قصة ثيسيوس والمونيتور قصة وسيرة ذاتية , تستدعي التحليل البنائي , وفيها تضاد بنائي , بين أب ضريرا شريدا طريدا رجيما وابنته التي تقوده أونتجون التي هي أخته وفي نفس الوقت ابنته من أمه كانت زوجته دون أن يدري. بينما على الوجه المقابل من مغناطيس درامي شخص أخر يسمى ثيسيوس , وخرافة أخرى نصفها رجل ونصفها ثور.....تتغذى على البشر قربانا للألهة. سجنت بالمتاهة , تتوسط, راغبة للتوفيق بين متضادين متزامنين .
يضع الباحث مرات , مرتين اجزاء النص في تنظيمات متنوعة.
أن ما يميز (أوديب في كولونا) او ثيسيوس هو كون شكل بناء النص الدرامي الشعري التراجيدي المأسوي يتكرر ,دون وعي , المرة بعد المرة في سياق اللعبة البنائية غير المرئية في خطة القافية , وفي قواعد اللغة الاغريقية الفصيحة الأفلاطونية , وفي الجنس وغيرها.
يبدو ثيسيوس وكأنه يطلق رصاصة الرحمة ومن مسافة صفر , كما اراده خلاصا لرفيق دربه وفي سفره الدرامي الواحد أوديب ملكا مخاطبا ابنتا أوديب :
- " أيتها الفتاتان ! لقد حذر على أوديب أن يعرف انسان قبره أو أن يدنو انسان من المكان المقدس الذي استقر فيه , وأكد لي أني أن أنفذ أمره في دقة وحزم فسأملك دائما على أرض معصومة من الشقاء. اذن فقد وعدته بذلك وشهدت عليّ الآلهة ووزير (زوس) ".
ما أشقى هذا الرجل , , ما اشقى هذه الكلمات , ما اشقى هذا النص , وما اشقى هذه اللغة. يكاد الألم أن يكون اكسير الحياة يوزع كما توزع عناصر الحياة : الماء , النار , الهواء , التراب . المشترك الوحيد الذي يحل بجل المآسي الاغريقية ولو أنها تحمل لبوسا أخر مستترا سياسيا اجتماعيا مطاطيا غير متجانس يأخذ شكل القالب الذي صبّ فيه !.قابلا للتأويل والتحويل في أي لحظة وفي أي مكان وفي أي حدث ووحدة مادة ونغم.
أخيرا وجد أوديب الخلاّص لنفسه , بمساعدة صديقا له ثيسيوس , كرم بالدفن , وحاز بطقوس يليق بعظمة رجل ميت كما يقول الأغارقة بلغة التأبين , رغم ما أقترف من ذنوب في حق الأصول والفروع.
مهما يكن أوديب رجلا كبيرا ابن رجل كبير. , كان ملكا وخلص المدينة من داء وذل سؤال ( الهولة) . تماما كما خلص ثيسيوس كولونا من ( المونيتور) , لكنه لا يزال متابعا ولا تسقط عليه القضية بالتقادم حتى ان قضى هاربا وفارا.استطاع أن يهتك محظورا معينا خاصا بالألهة. أما ثيسيوس ما هو إلا بطل قد خلت من قبله الأبطال والبشر , يسقط عليه ما يسقط على البشر.
ما هو الا البعد الأسطوري للنص الشعري الذي صنع من عقدة او سيرة ذاتية لا تلبس النص الدرامي التراجيدي عنوانا. شبيهة بروح الكهنة ( تريسياس) , وظيفة تكرارية بالأدب الكلاسيكي , تمنح بنية الأسطورة جلاءها ورونقها وعلياءها وكبرياءها وسموها . فدسيتها و ألوهيتها....كون التحليل ( الفونتيمي) يقدر ما يتميز به المذهب البنائي بتقديمه تفسيرا تحليليا للأسطورة, من حيث انه يفتح الطريق الى بعد جديد مهما تكن أهمية ذاك الأديب الممارس وان ينمو بإتجاه الأسطورة كنوع من انواع ميراث الفنون , قدره محتوم الذي لا مفر منه. دون أن ننسى اننا في عصر معادي لكل ما هو جميل آسر ساحر أخاذ. ومع هذا لا يمكن العيش والنماء اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا بعيدا عن الأسطورة والخرافة لبناء وتشييد حضارة بشقيها المادي واللامادي.
تظل الأسطورة , لتبقى هذه العبارة وعاء الفكرة التكرارية حكمة على لسان رئيس الجوقة عبر نهاية كل نص درامي تراجيدي هي نفسها مع الفارق.
- رئيس الجوقة : أي أسرة أتريوس , ما أشد ما احتملت من ألم لتظفري آخر الأمر بالحرية , التي قوامها هذا الجهد الأخير. / ( إلكترا) .
- رئيس الجوقة : ما أكثر الأحداث التي تقع أمام أعين الناس. ولكنهم لا يستطيعون أن يتنبأوا بها قبل أن تكون . / (أياس)
- رئيس الجوقة : أي ابناء ثيبة وطني العزيز , انظروا إلى أوديب هذا الذي حلّ اللغز العجيب الذي اجز غيره من الناس . هذا الرجل القوي , أي ابناء المدينة لم يكن ينظر الى رخائه وسعادته في شيئ من الحسد ! والآن في أي بحر هائل هائج مائج من الشقاء قذف به! ما ينبغي أن نقول عن أحد من الناس إنه سعيد قبل أن يقضى الساعة الأخيرة , حياته دون ان يتعرض لشر ما. / (أونتجون)
- رئيس الجوقة : كفا لا تمدا غناءكما الحزين , فإن هذا الوعد محقق لا شك فيه. / (أوديب في كولونا او ( ثيسيوس والمونيتور).
- رئيس الجوقة : لنبحر جميعا بعد أن ندعو في خشوع عذارى البحر ليقبلن على سفينتنا فيحميها من كل مكروه . / (فيلوكتيت)
و الأن , ألا ترى أن جميع هذه الأقاويل لرئيس الجوقة عند نهاية كل أثر اغريقي او نص من هذه النصوص المختلفة , تبدو وكأنها قيلت لشخص واحد , قادمة من اصوات بعيدة لتصبّ في مسمع واحد بأصداء مختلفة !؟.
***********************
***********************