المواطنة في أدبيات الفكر السياسي الإسلامي
المواطنة في أدبيات الفكر السياسي الإسلامي
بدعوة من نادي البيان، وتحت إشراف مديرية الثقافة والفنون لولاية معسكر ، قدم ، صباح يوم السبت 27 مارس 2021 ، ابتداء من الساعة العاشرة ، بقاعة المحاضرات بدار الثقافة أبي رأس الناصري ، الدكتور نورالدين باب العياط ، أستاذ محاضر بقسم علم الاجتماع بجامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف ، محاضرة تحت عنوان "المواطنة في أدبيات الفكر السياسي الإسلامي " .
نشط هذا
اللقاء ، الدكتور فيصل مختاري ، أستاذ الاقتصاد بجامعة مصطفى اسطنبولي بمعسكر ،
الذي رحب ، في البداية ، بالأستاذ نور الدين باب العياط وشكره على تلبيته دعوة
نادي البيان وتجشمه عناء السفر من وهران إلى معسكر ، وكذا القائمين على نادي
البيان على الذي يقدمونه للثقافة والعلم . ثم أعطى نبذة مختصرة عن السيرة العلمية
للمحاضر ، فهو :
_ أستاذ محاضر أ بقسم العلوم الإنسانية بجامعة
الشلف .
_ مقيم بمدينة وهران .
_ حاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الإنسانية
والحضارة الإسلامية والتأهيل من جامعة وهران .
_ يشرف على بعض المقاييس المرتبطة بالعلوم
الإنسانية ( تاريخ الأفكار ، الفكر الإسلامي ، البحث التاريخي ...) .
_ له الكثير من المقالات المنشورة في العديد من
المجلات العلمية ، مثل :
*الوعي التاريخي في الخطاب العربي المعاصر :
محمد عابد الجابري نموذجا .
*
أسباب نزول القرآن الكريم من منظور القراءة الحديثة .
_ شارك في العديد من الملتقيات المرتبطة بتخصص
العلوم الإنسانية والحضارة الإسلامية .
_ عضو في فرقة بحث حول مسألة الهوية والوطنية في
الخطاب السياسي والقانون الاستيطاني في الجزائر ( 1832 _ 1834 ) .
_ عضو في لجنة تحرير وتحكيم بعدة مجلات علمية .
لما
أحال المنشط الكلمة للأستاذ المحاضر ، شكر هذا الأخير الأول وكذا الأساتذة الأفاضل
وعلى الاستضافة وقال : لي كامل الشرف أن أجلس بين أحبابي في مجال الثقافة و الفكر
في مدينة أعزها كثيرا وهي مدينة الأمير عبد القادر رمز القلم والسيف . كما جدد
شكره للأستاذ عبد الحميد سي ناصر الذي استضافه رغم أنه لم يصادفه إلا من خلال
الفضاء الأزرق والنشاطات الثقافية التي يتابعها باهتمام رفقة مجموعة من الأساتذة الأفاضل
.
بعدها
شرع في موضوع مداخلته ، الذي وصفه بأنه يثير الكثير من التساؤلات على مستوى البحث
وتتجدد فيه مسألة المواطنة التي مازالت تطرح حتى اليوم . ولأنه مصاب بالزكام ،
عافنا و عفاكم الله منه ، فضل القراءة من ما دونه ثم الشرح . وكمقدمة لمحاضرته ،
تطرق د . نورالدين باب العياط إلى إشكالية علاقة الدين بالدولة لا سيما مع نشوء
وتطور فكرة المواطنة التي أتاحت للدولة توفير حقل عمومي للأفراد و تأطيرهم بإطار
الولاء الكلي ، عبر النظر إليهم أفرادا لا بوصفهم جماعات متغايرة بفعل العقيدة أو
الانتماءات ذات الطابع التاريخي التقليدي. وقد طرحت دولة المواطنة كبديل للدولة
التي كانت سائدة في العصور الوسطى في أوروبا قبل بروز فكرة فصل الدين عن الدولة .
والتي وجدت حاضنا لها لدى العديد من المفكرين والمثقفين في العالم الإسلامي. ولاحظ
المحاضر بـأن الدولة ، في العديد من الأقطار الإسلامية ، مازالت تستند إلى
الولاءات التقليدية كالقبيلة ، الطائفة ، وسائر الأطر التي لعبت ولا تزال دورا
وازنا في الحقل السياسي . وعلى ضوء هذا الواقع المتلازم مع الإخفاق في برامج
التنمية والحرية التي وعدت بها الدولة الناشئة بعد عهود الاستعمار ، برزت اتجاهات في الفكر الإسلامي لمواجهة
إشكالية العلاقة بين الدين والدولة ومدى ملائمة الدين للتطورات الحديثة في حقل
السلطة والتشريع . واستنادا إلى هذا الأمر ، وفي ظل تنامي أسلمة النظام السياسي من
جهة وإلى الفهم الديني المقترن بقدرة الدين وأحكامه على التعاطي مع تعقيدات الواقع
، جاءت هذه المحاضرة ، يقول المحاضر ، والتي انطلقت من هاجس معرفة اتجاهات الفكر
الإسلامي في مقاربته لموضوع المواطنة ، و ما أثارته من جدل معرفي وإشكالات هامة من
قبيل :
_ ما هي الحدود التي تلتقي وتفترق فيها النظرية
الغربية والإسلامية لمفهوم المواطنة ؟
_ هل أستطاع الفكر الإسلامي بلورت رؤية عن
المواطنة في سياق ما بات يعرف بمشروع أسلمة المعرفة ، بديلا عن المواطنة في الفكر الغربي ؟
_ كيف يجيب الفكر الإسلامي عن مواطنة غير
المسلمين في راهن الواقع أمام النصوص الفقهية والمدونات التراثية التي فصلت في
الأمر سلفا بعنوان أهل الذمة ؟
_ ما هو مبرر الشرخ الحاصل بين النصوص التأسيسية
الأولى للفكر الإسلامي الحاكية عن كرامة الإنسان وحريته والنصوص الثانوية القارئة
لها بصورة لا تعكس هذه الكرامة ولا حرية الإنسان ؟
بعد
طرحه لهذه المجموعة من الإشكالات ، التي لازمت مفهوم المواطنة في الفكر الإسلامي
حتى اليوم سواء من داخل الحركة الإسلامية التي تتبنى مشروع الدولة الإسلامية ، أو
من خارجها ، التي يتبنها مفكرون قوميون ، تناول المحاضر بالتحليل مسألة مبرر الشرخ
الحاصل بين النص الأصلي التأسيسي ( القرآن والسنة النبوية ) والنصوص الموازية له
التي تولدت بفعل ما يسمى بالتاريخية ، بقوله
: في الحقيقة الأزمة التي تصيب الفكر الإسلامي هي هذا الخلط مابين ما هو
أصلي وما هو ثانوي . وأعطى مثالا على مفهوم العدل قبل أن طرحت فكرة المواطنة أصلا
. وذكر مقولة الإمام علي كرم الله وجهه ، التي جاءت في إحدى خطبه ، من العهد الذي
أرسله إلى الملك الأشطر ، والتي اعتمدت من طرف الأمم المتحدة وأقرها أمينها العام
الأسبق السيد كوفي عنان : " الناس اثنان :إما أخ لك في الدين ، أو نظير لك في
الخلق " . وأضاف المحاضر ، هذه قاعدة ترتقي إلى ما يسمى بمفهوم المواطنة بشكل
إنساني . ثم أعطى تعريفا بسيطا للمواطنة ، مفاده : هي نتاج تاريخي لما يسمى
بالدولة . وتساءل : هل هناك دولة نموذجية في المجتمع الإسلامي يمكن أن نؤسس عليها
أطروحة المواطنة في الإسلام ؟ وأجاب : عندما نرجع إلى تاريخ التراث ، لا نجد نموذج
الدولة المكتملة ، بخصوصيات الدولة باكتمال كيانها ومؤسساتها . وجال بالحاضرين ،
عبر الفترات التاريخية ، حول مفهوم نظام الدولة الإسلامية ، ابتداء من دولة
المدينة المنورة ، مرورا بدولة الخلفاء الراشدين ، خاصة في عهد الخليفة عمر بن
الخطاب الذي أسس لمفهوم الدولة ،و وصولا إلى الخلافة العثمانية . ويرى الباحثون
بأن شكل هذه الدولة تغير من خليفة إلى آخر . وحتى هذا الاختلاف ، يطرح عدة إشكالات
، يقول المحاضر ، مثل : كيف نتكلم عن أسس المواطنة التي هي ، في الحقيقة ، ملخص
لدولة مكتملة؟ تأتي الرؤية الإسلامية لتلتقي مع المواطنة في مبناها الفكري كما في
المبنى الإجرائي التشريعي:
1 المبنى الفكري: الذي تؤيده جملة من النصوص
الدينية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، كمبدأ المساواة بين الناس على
قاعدة النوع الإنساني باعتبارهم يرجعون إلى نفس واحدة . وأعطى أمثلة على ذلك ،
منها : " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها
وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" ( سورة
النساء ) . "كلكم لأدم وأدم من تراب ، لا فضل لعربي على عجمي ولا أبيض على
أسود " ( حديث شريف ) . وهذه النصوص من القرآن والسنة ، تؤكد نظرة الإسلام
إلى الناس بوصفهم متساوون في الاعتبار والقيمة بمجرد انتسابهم إلى النوع الإنساني
.
2 المبنى الإجرائي والتشريعي : تناول الفكر
الإسلامي الحقوق والواجبات من زاوية ما يعود للمسلمين وغير المسلمين في المجتمع
الإسلامي .
*بالنسبة للمسلمين : تميز نصوص القرآن وما اتصل
بها من السنة النبوية بين المؤمن والفاسق ،المجاهد والقاعد . غير أنه لا يرتب عن
هذه التصنيفات اختلافات في الحقوق والواجبات الاجتماعية، ويترك الجزاء إلى الله عز
وجل . والتمييز بين الرجل والمرأة مبرراته تكوينية لا تلغي التساوي الإنساني .
* الموقف من الأقليات الدينية : أنطلق التشريع
في هذه المسألة في خطين عريضين :
الأول : وهو خط أهل الكتاب المنتمين في صفتهم
إلى كتاب منزل كاليهود والنصارى . تنتهي مسألة القتال بينهم وبين المسلمين
بإسلامهم أو بدفع الجزية التي يفرضها ولي الأمر الذي يتغلب عليهم ، وتكون مقابل
الحماية الإسلامية لهم دون أن يلتزموا أي التزام عسكري في حماية ثغور المسلمين ،
بالإضافة إلى حقوقهم الدينية في نطاق النظام العام للدولة من دون إنقاص إنسانيتهم
.
الثاني : وهو خط غير أهل الكتاب : الملاحدة ،
المشركين ، والأديان الأخرى غير السماوية . برغم أن الإسلام لا يعتبر الإلحاد
والشرك فكرا محترما يفرض احترام انتماء الناس إليه، ويعتبره نهجا منحرفا عن طبيعة
الأشياء ، إلا أن الفقهاء المسلمون يرون أنه يقبل منهم الإسلام حتى في صورته
الشكلية التي لا تنطلق من قناعة ذاتية ، لأن المطلوب إخضاعهم للسلطة الإسلامية
وإخراجهم من أجواء العداوة للإسلام والمسلمين .
بعد أن
توقف د. نورالدين باب العياط لحظة وأرتشف جرعة من الماء ، بسبب جفاف ريقه جراء
أخذه دواء الزكام ، واصل حديثه ، في الجزء الثاني من مداخلته ، عن الخطاب الإسلامي
الجديد و مفهوم المواطنة ، بقوله : إن المحاولات التجديدية للخطاب الإسلامي الجديد
لمفهوم المواطنة غفلت عن بناء المواطنة وفق أسس النظر الأخلاقي وهو الذي أفقدها
تماسكها وانسجامها مع المنظور الإسلامي حسب تعبير طه عبد الرحمن . فقد اتجه
المفكرون الإسلاميون المتأخرون إلى التأكيد وعلىاعتبار المجتمع الإسلامي هو قاعدة
الولاء وأساس العامل السياسي . رفض كل من أبي العلاء المودودي وسيد قطب الحلول
الوسطية وأكدا على ضرورة اقتصار المجتمع الإسلامي على المسلمين وبإمكان غير
المسلمين العيش كأقليات تحميها الدولة. وعلى مستوى التنظير الفكري لمفهوم المواطنة
، نجد خطابين متباينين . الأول يقطع ابتداء بوجود مفهوم مؤسس للمواطنة في الإسلام
ويدعو إلى قبوله من فضاءه الخارجي ، ويؤيد هذا المفهوم المفكر محمد أركون .
والثاني تنوعت داخله الأطروحات وتعددت. ففهمي هويدي يرى ضرورة تجاوز الصيغ
والمفاهيم التقليدية بسبب التطورات الحديثة بالاعتماد على المبادئ الأساسية للقرآن
والسنة .و سليم العوا يعتمد على التضاد بين ما أسماه شرعية الفتح وشرعية التحرير .
فالدولة الإسلامية الحديثة ظهرت إلى الوجود نتيجة صراع التحرير الذي ساهم فيه غير
المسلمين بصورة مساوية للمسلمين . ولذلك فهم يستحقون حقوقا كاملة كمواطنين . أما
راشد الغنوشي فيرى أن غير المسلمين قد يصبحون مواطنين في حالة قبولهم بشرعية
الدولة الإسلامية ، إلا أنهم لا يتسلمون مناصب رئيسية في الدولة . في اعتقاد د.
نورالدين باب العياط ، المساهمة الأبرز في توسيع مفهوم المواطنة إسلاما ، هي التي
جاء بها المفكر المغربي طه عبد الرحمن ، وذلك من خلال إبرازه لأوجه القصور الذي
عاب مفهوم المواطنة الحداثي الغربي ( الليبرالي ) والتفاته إلى الأساس الفلسفي
والأخلاقي الذي ينطوي عليه مفهوم المواطنة والقائم على مبدأ إقامة العدل في
المجتمع .
ختم المحاضر مداخلته بالحديث عن المواطنة وحال
الخطاب السياسي للحركة الإسلامية ، من خلال أربعة نقاط أساسية على النحو التالي :
1ـــــ يخضع الخطاب السياسي للإسلاميين لمسارين
متداخلين . الأول يخص الواقع المحلي المتسم بالتعقيد شكلته عوامل عديدة ( تاريخية
، ثقافية ، اقتصادية ، اجتماعية ) سابقة لوجودهم ومستقلة عنهم . والثاني خارجي
تحكمه مصالح إقليمية ودولية يقوده الفكر السياسي والاقتصادي العالمي القائم على
ليبرالية متعددة الأوجه . وبالتالي فإن الإسلاميين لم يبدعوا في المجال السياسي
ويسعون لتقمص نماذج كانوا يحاربنها ويصفونها بكونها غير إسلامية .
2ـ ـــــ وصول الإسلاميين إلى الحكم في لحظة
تاريخية لم تستكمل فيها مراجعات الفكر الديني الإسلامي ( تداخل الأفكار
والخطابات ، ينتمي بعضها إلى القرن الرابع
أو السادس الهجري ).
three ـــــ الإسلاميون تيارات ، أنواع ، ومسارات ، تفاوتت في دراجات
النضج والفهم والاستفادة من الأخطاء والدروس ( ظاهرة الفكر الديني الراديكالي ) .
4 ـــــ يمارس العديد من السياسيين للحركات
الإسلامية البراغماتية في خطاباتهم وتحالفاتهم . مما أثر على انسجامهم السياسي
والفكري ، بل أضاع أحيانا الأهداف التي رسمت ابتداء . فالمواطنة ، في خضم هذا
الاحتراز ، لا يمكن أن تأسس بصورة واضحة ولا يمكنها أن تأخذ وجها واحدا ثابتا
للعمل السياسي للحركة الإسلامية .
تلت
هذه المحاضرة مناقشة غنية بتعقيبات وأسئلة الحضور ، وصفها أحد المتدخلين ، وهو
الأستاذ عبد الرحمن صدار بقوله : " إننا الآن ، في هذه القاعة ، نمارس
المواطنة في أعلى مراتبها : الأستاذ يحاضر والحضور يناقش ، هذه هي المواطنة
".
وكان تدخل أ. غماري طيبي من أهم التدخلات ،
نلخصه كما يلي : بالنسبة له ، المواطنة ، باعتبارها نتاج حصري للدولة الحديثة ،
وتجربة تاريخية واجتماعية غربية ، تبقى مفهوما متعارضا مع روح المشروع الإسلامي
المؤسس على تجربة تاريخية جامدة . مرت هذه التجربة الغربية ، في تغيرها للتفكير ،
عبر ثلاث ثورات :
1 ــــ الثورة السياسية الفرنسية : التي حولت
الدولة الإمبراطورية إلى دولة وطنية .
2 ــــ الثورة الصناعية البريطانية: التي أنتجت
قطيعة جذرية مع الممارسات الاقتصادية القديمة ( رأس المال ) .
3
ــــــ الثورة الفكرية والثقافية الألمانية : التي أسست للقوانين الوضعية النافية
للقوانين السماوية السائدة في الماضي .
ومن هذا المنطق، فكل محاولة لأسلمة المفاهيم
الغربية ، ومنها المواطنة ، هي ترف فكري وجهد ضائع.
في رده على أسئلة الحضور ، ختم د. نورالدين باب
العياط كلامه بهذه الجملة : أعتز بجلوسي مع هذه النخبة من الأساتذة .
بعد أخذ صورة جماعية تذكارية مع المحاضر والقيام
بجولة برواق المعارض لدار الثقافة ، أين أقيم معرض بمناسبة اليوم العالمي للمسرح
المصادف ليوم 27 مارس ، ختم هذا اللقاء