درجات الوصول * قراءة في قصة " المجذوب " للكاتبة / جلاء الطيري بقلم / محمد عبدالقادر التوني .
* درجات الوصول *
قراءة في قصة " المجذوب "
للكاتبة / جلاء الطيري
بقلم / محمد عبدالقادر التوني .
¶| مؤتمر"ملتقى النقد الأدبي العالمي"¶|
_اليوم التاسع (٢٩ يناير ٢٠٢٣م)
---------------------------------
* درجات الوصول *
قراءة في قصة " المجذوب "
للكاتبة / جلاء الطيري
بقلم / محمد عبدالقادر التوني .
---------------------------------
بذكاء تنتقد القاصة في قصتها " المجذوب " بعض العادات والسلوكيات
الخاطئة في المجتمع المحيط بها ؛ والذي تبدو عليه ملامح الريف المصري بصفة عامة
والصعيدي بصفة خاصة ؛ حيث تربط بين الجهل والخرافة من خلال الاعتقاد الراسخ بأن كل
ذي ثياب رثة : وليّ ! حتى وإن كان بأسمال ولا يعرف شيئاً من الكلام ! ؛ فتعري هذا
الشخص " المجذوب " رث الثياب ؛ الذي
يسمى " محمود " ؛ كما تعري الأسرة التي تعتقد بهذا ، وكشف ما يصيبها من
ضرر من جراء هذا الاعتقاد ، متمثلة في الأسرة التي اعتبرت نفسها واحدة منها ؛
والمكونة من : الجدة .. والأخت الكبري المعاقة .. وهيّ ؛ أو الأخت الصغرى .
و تنتقد الجهل عند القائمين على رعاية الأسرة ؛ فجهل الآباء أو من ينوب
عنهم يعتبر قتل للأبناء .
كما أنها تفتش في جعبة الذكر والأنى ؛ وتثبت بالبرهان : أن الذكر ذكرَ مهما
بلغ به حد البله ؛ وأن الأنثى أنثى في حاجة دوماً لمن يحتويها .
وفي ربط بين المستوى العلمي والثقافي للأنثى من ناحية ؛ وحاجتها الفسيولوجية للذكر من ناحية أخرى ؛
تكشف لنا درجات السقوط ؛ فكلما كانت الأنثى على درجة من التعليم والثقافة ؛ كلما
كانت درجة الوعي عندها أعلى ، كسلاح تتسلح به في وجه الكذبة والممثلين ؛ والعكس
صحيح .
ـ فبدأت من النهاية ؛ لتكشف لنا عن درجات الوصول والرغبة الفطرية عند الذكر
والأنثى من خلال درس على مهل ؛ كتلميذ بليد يتحمل معلمه المعاناة في سبيل الوصول
به خطوة للأمام .
الجدة والمجذوب :
ــــــــــــــــــــــــــ
كانت الجدة هيّ المعلم الأول بفطرتها وطيبتها وسذاجتها والعادات والتقاليد
التي اكتسبنها على مدار السنين ، وما تنطوي عليه النفس البشرية تحار فيه العقول ؛
فالجدة والمجذوب : كلاهما يحسب حساباً للآخر ؛ فهيّ تجرده من ثيابه ؛ وتبقي على
القطعة المترهلة الملتصقة بمكمنه ،
والمجذوب : يعرف تمام المعرفة مدى أهمية وجود هذه القطعة المترهلة ؛ وبخاصة
في وجوده مع الجدة ؛ لأنه يعرف مدى قوة العادات والتقاليد عند الجدة ، حتى هيّ :
كانت تشيح بوجهها بعيداً عندما تصل إلى هذه المنطقة .
" ولأنني قادمة من فضاء التكنولوجيا ضحكت من فعلهما ، هذا المعتوه
وتلك التي تحممه وتتغاضى عن مكمنه الخفي " .
ـ ثم تصور لنا القاصة : أن ما نعيشه من أمراض ما هيّ إلا حالة نفسية تنقصنا
؛ فتظهر علينا في صورة أمراض عضوية ؛ فها هيّ الجدة تُشفى من وجع معدتها بقطعة خبز
يابسة اقتسمها معها محمود .
" يُخرج مجذوب القرية قطعة خُبز يابسة يقتسمها وجدتي ، تربت على كتفه
" والنبي حاسس بيّ يا شيخ محمود " ، تنفضها من التراب الذي علق بها ،
وتحاول جاهدة مضغها ، وما إن تبتلعها حتى تقول إنها تعافت من الألم الذي حول
معدتها إلى قطعة نار " .
ـ الغريب : أن الجدة تموت في الشهر الذي تخلف فيه " محمود " عن
الحضور ، وكأنها أدمنت ذلك ، بل فاقت حد الإدمان وكل المسكرات ،
" ماتت جدتي وهي تتألم من النار المستعرة في جوفها بعد أن أخلف "
محمود " موعده الشهري " ،
حتى القاصة نفسها وبصفتها البنت الصغرى في الأسرة تتعجب من ذلك ؛ وتحاول
جاهدة أن تجد له تعليلاً ،
" ماذا لو لم يخلف " محمود " موعده ؟ وأعطى لجدتي قطعة خبز
جافة مثلما فعل في المرة السابقة ، ربما خف الألم ، ربما شُفيت جدتي ، ربما لم تكن
لتمت من داء المعدة ، ربما ... ربما " .
ـ وبرغم ذلك فإنني أرى : أن هذا التعليل ؛ وهذه التساؤلات ؛ جاءت في غير
محلها ؛ إذ كيف يمكن للقارئ أن يُبدع ؟ لابد وأن نترك له شيئاً يفكر فيه ، فلربما
جاء بما لا يخطر في بالنا .
الأخت الكبرى :
ــــــــــــــــــــــــ
" أختي الكبرى التي تعدت الأربعين ، ولم يطرق بابها طارق ؛ لإعاقة
جعلت رجلها اليمنى أقصر من اليسرى جعلتها تحجل " .
ـ هذه الإعاقة تأخذنا إلى التطير من خلال تشاؤم النساء منها ؛ وتشبيهها
بالغراب ؛ وهي عادة مكتسبة من أيام الجاهلية ، ونهى عنها الإسلام .
" أسمع همسات النسوة كلما مرت أمامهن ، " أعوذ بالله دي نحس
" ، ربنا يكفينا شرها ، عاملة زي الغراب بتحجل برجل واحدة " ، كلما مرت
أمام دار إحداهن يصاب زوجها بمكروه ، لا أعلم إن كان صدفة أم صدق كلام النسوة
" .
ـ هي عملية نفسية بلا شك ؛ والغرض هو تقبيح النسوة لصورة الفتاة الأربعينية
؛ وذلك خوفاً وخشية من أزواجهن ، لأنهن يرونها صيداً سهلاً لأي زوج من أزواجهن ،
والدليل أنهن يرون أن نحسها يصيب أزواجهن ؛ وذلك بغرض تقبيح صورة الفتاة في نظر
الأزواج حتى لا يلتفت إليها أحد منهم .
ولذلك فإنني أرى أيضاً : أن ما جاء في الفقرة على لسان القاصة : " لا
أعلم إن كان صدفة أم صدق كلام النسوة " ؛ هي زائدة ولا داعي لها ، لأنها تجبر
القارئ على الوقوف ؛ علاوة على أنها تعتبر تحليلات مجانية توقف تفكير القارئ ؛
وتحرمنا من رؤيته التي ربما كشفت ما لم يخطر على عقولنا في الفقرة .
الأخت الكبرى :
ــــــــــــــــــــــــ
ـ تقع تحت ضغط نفسي شديد في ثلاثة اتجاهات
:
الأول : العجز أو الإعاقة .
الثاني : من همسات النساء ؛ واتهامهن لها النحس .
الثالث : العنوسة .
ـ أما عن العجز ؛ وهمسات النساء ؛ فقد تطرقنا إليهما سابقاً في القراءة ،
أما العنوسة : فتعبر عنا القاصة في القص بقولها :
" أراها تبكي بحرقة كلما سمعت الزغاريد تنطلق من بيوت من هن أصغر منها
بكثير " .
ولذلك عندما دعت لها أختها الصغرى ؛ بأن يمر " محمود " فتحممه
فيخفف عنها ، واستجاب الله دعائها ؛ كانت فرصة سانحة لها لتثبت لنفسها أولاً :
أنها أنثى ! وهي بذلك ترى أنها تكيد النسوة اللاتي يتغامزن عليها ، هذا من ناحية .
والناحية الأخرى : أنها تعذب نفسها وتنتقم منها .
وقد حدث بالفعل بانتحارها بعد وقوعها في الخطيئة مع هذا المجذوب .
" تقاربت زيارات المجذوب حتى صارت يومية ، وأختي تمارس معه نفس الطقس
، ودائماً ينفذ الصابون المعطر ، كانت في كل مرة تقول لي : " خذي راحتك ، ولا
داعي للعجلة " .
وهنا لنا وقفة : كل العبارات التي جاءت على لسان الشخصيات : ( الجدة ـ
النساء اللاتي وصفن الفتاة بأنها نحس ... إلخ ) ؛ جاءت بالعامية ، مما جعلها أكثر
صدقاً ؛ إضافة إلى ما تظهره من أبعاد نفسية أخرى . فيما عدا هذه الكلمات التي جاءت
على لسان الأخت الكبرى " خذي راحتك ، ولا داعي للعجلة " ! . وهذه تحتاج
إلى تفكير ؛ فالقاصة تعرف ماذا تكتب ؟ ؛ فكل العجزة والمعاقين في بلادنا يوجهونهم
نحو التعليم الأزهري ، وهي عملية نفسية أيضاً ؛ مؤداها الأول : التصبر . لذلك قد
تكون لغة الدراسة غالبة على لسان الفتاة .
لكن حتى وإن كان هذا التحليل صحيحاً ؛ فإن الإنسان في مثل هذه المواقف تطير
منه كل اللغات واللهجات .
الأخت الصغرى ( القاصة ) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موقف الأخت الصغرى من البداية إلى النهاية ؛ أنها أصبحت الهدف المنشود
للمجذوب ! ؛ وهو الذي جعله يقف متسمراً يسد عليها باب الخروج ؛ وهو من وضع في يدها
قصاصة الورق التي تقول :
" لا ترحل من كون إلى كون كحمار الرحى الذي يسير ، والذي ارتحل إليه
هو الذي ارتحل منه " .
ـ ومن خلال هذه العبارة : نكون قد وصلنا إلى نقطة الصفر ، وأننا جميعاً
مجاذيب ؛ كلَ حسب طريقته وظهوره وحيله ؛ وعليها أن ترضخ للأمر الواقع .
ـ إذن هو ليس مجذوب ؛ لكنه فيلسوف أحسن التعامل مع الواقع ! ؛ وجسده :
" الذي يكاد من فرط بياضه يُضيء " خير دليل على أن هذا الرجل يجد من
يحممه كل يوم ! ؛ فهو يأكل ويشرب ويجد من يحممه ... والله يسهله .
درجات الوصول :
ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ الهدف الأساسي الذي يسعى المجذوب للوصول إليه : هو الوصول للبنت الصغرى
أو الأخت الصغرى ، ولذلك فإنه كان ذكياً جداً في طريقة الدخول ؛ وبما يتناسب
وطبيعة كل شخصية ! ، ( الجدة ـ الأخت الكبرى ـ الأخت الصغرى ) .
فمثلاً :
1 ـ المجذوب والجدة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
المجذوب : يأتي إليها كل شهر بثيابه الرثة ؛ والقطعة المترهلة تواري مكمنه
.
الجدة : تُعد الطست النحاسي ـ تحممه ـ تدعك القطعة المترهلة وتغض البصر .
المجذوب : يقتسم معها قطعة خبز يابسة .
الجدة : " والنبي انت حاسس بيّ ياشيخ محمود " .
2 المجذوب والأخت الكبرى :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المجذوب : يأتي إليها بثيابه الرثة ، ومكمنه خال من القطعة المترهلة ! .
الأخت الكبري : تحممه ـ تدعك مكمنه طويلاً .
ـ تطلب من اختها
الصغرى أن تشتري صابون ، وتأتي على مهل .
ـ تقع معه في
الخطيئة ـ تحمل ـ لم تعد تستجيب لطرقات المجذوب .
المجذوب : بندائه المستعر الذي يشبه عواء كلب جائع . ( عواء = نباح ) .
الأخت الكبرى : تنتحر .
المجذوب : يصرخ : مااااااي ....مااااااي .
3 ـ المجذوب والأخت الصغرى :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المجذوب : يسد عليها الباب .
المجذوب : يضع في يدها ورقة ؛ ويده قابضة على أصابعها وكفها .
الأخت الصغرى : تتساءل : " ما الذي بيني وبينك أيها المجذوب ، الذي
يرفل في أسماله ، ويتمتم بكلمات وإشارات أجهل كنهها ؟! ما الذي جعلك تقف هكذا
متسمراً تسد عليّ باب الخروج ؟ ! تبتسم ابتسامتك الملغزة ! ، تنح قليلاً ولا تلق
بالاً لسري الدفين الذي فضحته عيناي هذا الصباح " .
وفي الأخير :
ــــــــــــــــــــ فإن الرسالة التي تسعى القاصة إلى توصيلها من خلال
القصة ؛ هي الوصول بهذه المجتمعات وبخاصة النسوة إلى درجة من الوعي من خلال العلم
والثقافة ؛ فهما السلاحان اللذان تتسلح بهما المرأة في مواجهة مثل هذه الحالات
الشاذة