محمد الطحيني
بوذا
بوذا - الزنادقة -المتشككون - العدميون - السوفسطائيون - الملحدون -
الماديون - ديانات بغير إله
إن أسفار اليوبانشاد نفسها تدل على أنه قد كان بين الناس متشككون حتى في
أيام اليوبانشاد؛ فقد كان الحكماء أحيانا يسخرون من الكهنة، مثال ذلك في سفر
"شاندوجيا" من أسفار اليوبانشاد، تشبيه لرجال الدين المتشددين في تمسكهم
بالعقيدة إذ ذاك بموكب من الكلاب أمسك كل منها ذيل سابقه، وهو يقول في ورع :
"أم دعونا نأكل، أم دعونا نشرب" ، وفي سفر "سواسانفد" من
أسفار اليوبانشاد تصريح بأنه لا إله، ولا جنة، ولا نار، ولا تناسخ، ولا عالم؛ وإن
أسفار الفيدا واليوبانشاد ليست إلا تأليفاً من عند جماعة من الحمقى المغرورين، وأن
الأفكار أوهام والألفاظ كلها باطلة، وأن من تخدعهم العبارات البراقة يتمسكون
بالآلهة، وبالمعابد، و "بالقديسين" مع أنه لا فرق في حقيقة الواقع بين
"فشنو" (الإله) وبين كلب من الكلاب، وإن قصة لتروى عن
"فيروكانا" الذي عاش اثنين وثلاثين عاماً تلميذاً للإله العظيم
"براجاباتي" نفسه، وأنه تعلم علماً كثيراً عن النفس "التي
خلصت" من الشرور، والتي لا تشيخ، ولا تموت، ولا تحزن، ولا تجوع، ولا تظمأ،
والتي لا ترغب إلا في الحق، ثم عاد "فيروكانا" بغتة إلى الأرض وطفق يعلم
الناس هذا المذهب الآتي الذي هو فضيحة الفضائح : "حياة الإنسان إنما تسعد
هاهنا على الأرض، ونفس الإنسان لا بد من إشباع رغباتها، فمن استطاع أن يسعد نفسه
على هذه الأرض، وأن يشبع رغبات نفسه، كسب الدارين معاً، هذه الحياة الدنيا والحياة
الآخرة"، وإذن فقد يكون البرهميون الصالحون الذين صانوا تاريخ بلادهم، قد
خدعونا قليلاً حين أفهمونا أن نزعة التصوف والتقوى بين الهندوس كانت عامة لم يشذ
عنها أحد.
والحق أنه كلما كشف لنا البحث العلمي عن شخصيات لم تكن في المنزلة العليا
من احترام الناس، ممن اشتغلوا بالفلسفة الهندية قبل بوذا، ارتسمت لنا صورة تبين
لنا إلى جانب القديسين السابحين في تأملاتهم عن إلههم "براهما"، طائفة
من الأشخاص احتقرت الكهنة وشكت في الآلهة، وسميت- دون أن ترتاع لهذا الاسم- سميت
بطائفة "اللا أدريين" و "العدميين"؛ فمثلاً رفض
"سانجايا" اللا أدري أن يثبت أو أن ينفي الحياة بعد الموت، وتشكك في
إمكان حصول الإنسان على العلم اليقيني، وحصر الفلسفة في محاولة استتباب السلام؛
كذلك أبى "بورانا كاشيابا" أن يعترف بالفوارق الخلقية، وعلم الناس أن
الروح عبد للمصادفة لا يملك لها دفعاً؛ وذهب "ماسكارين جوسالا" إلى أن
القدر قد خط في لوحه كل شئ يصيبه الإنسان بغض النظر عما هو جدير به حقاً؛ ورد
"أجيتا كاسا كامبالين" الإنسان إلى عناصر هي التراب والماء والنار
والهواء، وقال : "إن الحمقى وأرباب الحكمة يتشابهون إذا ما تحلل الجسد،
فكلاهما يزول وينعدم ولا يكون له وجود بعد الموت"، ولقد صور لنا مؤلف
"رامايانا" صورة نموذجية للمتشكك حين صور لنا "جابالي" الذي
جعل يسخر من راما" لأنه رفض مملكة ليفي بوعد تعهد بالوفاء به :
"جابالي وهو برهمي عالم وسوفسطائي مهر في الكلام، تشكك في الإيمان وفي
القانون والواجب، وراح يحدث سيد أيوذيا الشاب قائلاً :
أنى لك يا "راما" هذه الحكم السخيفة التي ترين على قلبك وتكتنف
عقلك.
هذه الحكم التي تضلل السذج ومن لا يتعمقون التفكير من بني الإنسان ...؟
أواه، إني لأبكي من أجل هؤلاء الفانين من الناس حين يخطئون فيكبون على واجب
باطل.
ويضحون بهذه المتعة الحبيبة إلى النفس حتى تنقضي حياتهم القاحلة.
وما ينفكون يقدمون العطايا للآلهة وللأسلاف؛ ياله من ضياع للطعام!
لأنه لا الإله ولا السلف يأخذ منا هذا الذي نقدمه إليه في ولاء وتقوى!
وهل إذا أكل الطعام آكل، تغذى به ناس آخرون؟
فهذا الطعام تقدمونه لبرهمي، هل يمكن له إذن أن يشبع الآباء السالفين؛ إن
الكهنة بخبثهم قد صاغوا هذه الحكم، وهم يقولون إذ هم ينظرون إلي أغراض أنانية:
"قدم قربانك وتب إلى الله؛ واترك مالك الدنيوي وأخلص للصلاة!"
كلا، يا "راما" ليس هناك حياة آخره، وكلها أباطيل
هذه الآمال وهذه العقائد عند الإنسان
فابحث عن لذائذ الحاضر، واطرد عن نفسك هذه الأوهام العابثة الواهية
ولما شب بوذا رجلاً، وجد القيعان والشوارع بل وجد الغابات في شمال الهند،
تتجاوب كلها بأصداء نزاع فلسفي، كان في جملته ينحو نحواً إلحاديا مادياً. وإنك
لترى الأسفار الأخيرة من "يوبانشاد"، كما ترى أقدم الأسفار البوذية
ملئاً بالإشارات إلى هؤلاء الزنادقة؛ فقد كان هناك طائفة كبيرة من السوفسطائيين
الجوالين- ويسمونهم باريباجاكا أو المتجولين- تنفق أحسن أيام السنة في الرحلة من
مكان إلى مكان، باحثة لها عن تلاميذ أو معارضين في البحث الفلسفي؛ وبعضهم كان يعلم
المنطق على أنه الفن الذي تستطيع به أن تبرهن على أي شئ ، ولذلك أطلق عليهم بحق
اسم "من يشققون الشعرة" أو "من يتلون تلوي ثعابين الماء"؛
وآخرون طفقوا يبرهنون على عدم وجود الله وعدم ضرورة اصطناع الفضيلة؛ وكانت جموع
كبيرة من الناس تحتشد لتسمع أمثال هذه المحاضرات والمناقشات، وبنيت قاعات لهم
خاصة، وكان الأمراء أحيانا يكافئون الظافرين في أمثال هذه الحلبات الفكرية؛ حقاً
لقد كان عصراً يدهشك بحرية فكره، وبألوان التجارب التي أجراها أهله في عالم
الفلسفة.
ولم يبق لنا كثير مما قاله هؤلاء المتشككة، والفضل في خلود ذكراهم يرجع كله
تقريباً إلى ما هاجمهم به أعداؤهم، وأقدم اسم بين تلك الطائفة هو
"بريهاسباتي"، لكن أقواله الهدامة قد فنيت كلها، بحيث لم يبق لنا منها
إلا قصيدة واحدة تحط من شأن الكهنة في لغة لا يشوبها غموض الميتافيزيقا:
ليس للجنة وجود، وليس هناك خلاص أخير؛
فلا روح، ولا آخرة، ولا طقوس للطبقات ...
إن فيدا ذات الوجوه الثلاثة، وأمر الإنسان لنفسه بلغات ثلاث؛
وهذه التوبة بكل ما فيها من تراب ورماد.
كل هذه وسائل عيش لقوم خلوا من الذكاء والرجولة ...
كيف يمكن لهذا الجسد إذا ما أصبح تراباً أن يعود إلى الظهور على الأرض؟
وإذا كان في وسع الشبح أن يمضي
إلى عوالم أخرى، فلماذا لا يجذبه الحب الشديد لمن يخلفهم وراءه ، فيرجعه
إليهم؟
إن هذه الطقوس الغالية التي تقام لمن يموتون
ليست إلا وسائل عيش دبّرها دهاء الكهنة- لا أكثر من ذلك ...
فما دمت حياً، أنفق حياتك مطمئن البال
مرح النفس؛ ليقترض الإنسان مالا
من أصدقائه جميعاً، ويطعم نفسه بالزبد المذاب.
وعلى أساس القواعد التي أذاعها "بريهاسباتي" هذا، نشأت مدرسة
هندوسية مادية بأسرها، أطلق عليها اسم واحد من رجالها، وهو "شارفاكا"
وكان أتباع هذه المدرسة يضحكون من سخف الرأي القائل : أن أسفار الفيدا قد احتوت
على الحق كما أوحى به الله، وقالوا في حجاجهم إن الحق يستحيل معرفته إلا عن طريق
الحواس؛ وحتى العقل لا يجوز الركون إليه والثقة به، لأن كل استدلال عقلي لا يعتمد
في صوابه على الملاحظة الدقيقة والتدليل الصحيح فحسب، بل يعتمد كذلك على افتراض أن
المستقبل سيجيء على غرار الماضي؛ واليقين في مثل هذا الافتراض مستحيل، كما كان
"هيوم" ليقول في الموضوع عندئذ؛ قال فريق "الشارفاكا" إن ما
لا تدركه الحواس ليس له وجود، وإذن فالروح وهم من الأوهام والإله
"أتمان" أبطولة من الأباطيل؛ أننا لا نصادف في تجاربنا ولا في تجارب
السالفين، إذ نستبطن أنفسنا، أية علامة تدل على وجود قوى خارقة للطبيعة في العالم؛
كل الظواهر طبيعية، ولا يردها إلى الشياطين أو الآلهة إلا السذج؛ والمادة هي وحدها
الحقيقة التي لا حقيقة سواها؛ والجسم مجموعة من ذرات اجتمع بعضها ببعض وما العقل
إلا مادة تفكر؛ والجسم- لا الروح- هو الذي يشعر ويرى ويسمع ويفكر "من ذا الذي
رأى روحاً موجودة في استقلال عن الجسم؟" فليس هناك خلود ولا عودة إلى الحياة؛
والدين كله تخليط وهذيان وسفسطة خادعة؛ وافتراض وجود الله لا ينفع شيئاً في شرح
العالم أو فهمه، وإذا اعتقد الناس بضرورة الدين، فما ذاك إلا لأنهم تعوّدوه، ولذا
فهم يحسون كأنما ضاع منهم ضائع، ويشعرون كأنهم في خلاء لا تطمئن له النفوس، حين
تنمو معارفهم نمواً يهدم العقيدة الدينية؛ وكذلك الأخلاق أمر طبيعي؛ فهي عرف
اجتماعي ووسيلة لراحة العيش في المجتمع، وليست بالأمر الصادر من الله؛ والطبيعة لا
تأبه لخير أو لشر، لفضيلة أو رذيلة، وهي تشرق بشمسها في غير تفرقة بين الأوغاد
والقديسين؛ فلو كان للطبيعة صفة أخلاقية إطلاقاً، فهي منافاتها للأخلاق كما تعرفها
حدود البشر؛ ولا حاجة بالإنسان إلى إلجام غرائزه وشهواته، لأن هذه هي الإرشادات
التي رسمتها الطبيعة للناس؛ الفضيلة غلطة من الغلطات، وغاية الحياة هي أن تعيش،
والحكمة الوحيدة هي أن تعيش سعيداً.
كانت الفلسفة الثائرة التي أخذ بها فريق "الشارفاكا" ختاماً
لأسفار الفيدا وأسفار اليوبانشاد؛ وزعزعت سلطة البراهمة على العقل الهندي، وتركت
في المجتمع الهندوسي فراغاً كاد يضطر الناس اضطراراً أن يصطنعوا لأنفسهم ديناً
جديداً؛ لكن أنصار المذهب المادي هؤلاء كانوا قد أجادوا أداء مهمتهم إجادة جعلت
الديانتين اللتين نشأتا لتحلا محل العقيدة الفيدية، ديانتين ملحدتين، أو عقيدتين
تعبديتين بغير إله- ولو أن هذا القول قد يبدو للقارئ تناقضاً- فكلتا الديانتين
الجديدتين كانتا شعبتين من الحركة الهدامة؛ وكلتاهما لم تكونا من إنشاء الكهنة
البراهمة، بل ابتدعهما فريق من "الكشاترية" أي طبقة المقاتلين، ليردوا
بهما فعل اللاهوت والطقوس الكهنوتية؛ وبظهور هاتين الديانتين، وهما الجانتية
والبوذية، بدأ التاريخ الهندي عصراً جديداً.
محمد الطحيني
يتبع- ماهافيرا والجانتيون